من دفتر الوطن

لعبة الغياب والحضور!

| عصام داري 

الغياب لا يلغي التأثير الذي تركه الغائب في النفوس والضمائر، بل ربما يزيد الغائب حضوراً، وتتفجر ذكراه كقارورة عطر انسكبت على مرمر وسندس، وانتشر الأريج في كل الأرجاء.
والغياب أحياناً هو هروب مقصود قد يطول أو يقصر، وهو حركة نحو زاوية نسيها الزمن، أو مقهى عتيق يغفو على كتف غابة ساحرة تركتها الجنيات من زمن حكايا الجدات، هو المقهى نفسه الذي غنت له فيروز:
«في قهوة ع المفرق، في موقدة وفي نار، كنا أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار جيت لقيت فيها عشاق اتنين زغار، قعدوا على مقاعدنا سرقوا منا المشوار».
هي كذلك الحكاية، هربت منا مقاعدنا، ذهبت في الاتجاه الصحيح، نحو جيل جديد ومحبين جدد، فلن نأخذ فرصتنا وفرص الآخرين، نبتعد ونحن في قلب الدنيا، وفي ذروة العطاء، ونتمسك بالحب وكل المشاعر الإنسانية الراقية.
نحن أبناء الحياة والحرية والفرح، أصدقاء الشعر والزجل والموسيقا والألحان السماوية، وأصحاب الحب والعشق والمحبة، وكل القيم النبيلة التي تميز الإنسان عن بقية مخلوقات الكون الفسيح، ولأننا كذلك لا يمكن أن تهزمنا الظلمة، ولا أن تجرحنا الأشواك، ولا أن نسقط على أول مفرق طريق.
يحلو الكلام والحب، تحلو الوشوشة والهمس، ينسانا الزمان وتتركنا السنوات في محراب العشق أبد الدهور والعصور، فلم نشبع من الدنيا بعد، وقد غدر بنا الزمن وهربت منا الأعمار تسربت كتسرب المياه من بين الأصابع.
نتوق إلى حياة فيها صخب الشباب وحيويتهم، وفرح الدنيا وحرارة الحب وأيام المرح، صحيح أن لكل سن حلاوته وجماله، لكننا طماعون عندما نقرر تجديد الشباب في سن الكهولة، وليس بمقدور أحد أن يصادر أحلامنا، أو أن يلغم دروبنا المزروعة بالورود والألوان والألحان، هي دروبنا في أي مرحلة من مراحل عمرنا، فلن نودع الحب، لكننا نعطيه إجازة مفتوحة بانتظار فرح آت على جناح فراشة!
نحلم طوال حياتنا بالجمال والسحر والحب، بل نحلم بامتلاك « وسيلة سحرية» لنحقق أحلامنا، أحلام الفقراء، نحلم بأننا نطير في الجو إلى درجة نكاد نصدق أننا قادرون على التحليق فعلاً، المهم أن نطير، إننا نطير فرحا عند لقاء من نحب، نطير فرحاً- نحن الذين صنعتنا الكتابة وتطويع الأبجدية والحرف – عندما ننجز مقالة، قصيدة، كتاباً، وهكذا يفعل المبدعون في الفن والشعر والموسيقا.
تخيلوا كيف يمكنكم الطيران، وطيروا كالعصافير والفراشات، فالحلم يجعل الحياة حلوة على مرارتها وقسوتها.
سأكتب بريشة عصفور ومداد من عطر الورد قصائد عشق للجمال والسحر والخيال ولوطن يجمع كل القيم الجمالية في هذا الكون.
سأنسج من ألوان الطبيعة الخلابة أثواباً من أحلام راودتنا منذ دهور، وأرسم لوحات تحاكي جمالاً هو أقرب إلى السحر والخيال والخرافة منه إلى الواقع البائس اليائس الذي حشرونا فيه وظنوا أنهم سجنوا أرواحنا في قمقم محكم الإغلاق.
معاً سنسير على دروب عشق تظللها الفراشات والأزاهير وتحلق فيها أسراب الحمام والعصافير، ولن توقفنا أشواك يزرعونها، في هذه الدروب، لأننا قادرون على اقتلاعها وحرقها، وسنفجرها بمن يحاول اغتيال حلم طفولة جميل عمره ملايين السنين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن