العنوسة تحت ضغط المجتمع والأعراف
| هبة اللـه الغلاييني
تستخدم كلمة (العنوسة) لوصف الأشخاص الذين تعدوا سن الزواج المتعارف عليه ومن الجنسين، إلا أن الفتاة في مجتمعنا تبقى الأكثر تأثرا بهذه الكلمة وبنظرة المجتمع إليها،فتكسب ومن حيث لا تدري (وصمة) عانس وبجدارة.
تختلف الآراء وإلى حد كبير ،بين التسليم بأن الفتاة التي شارفت على سن الثلاثين من عمرها عانس بالفعل، وبين رفض اعتبارها كذلك ولو تجاوزت سن الزواج المتعارف عليه لدى فئات المجتمع كلها، مستندة إلى أن الزمن تغير والعصر تطور وبات للفتاة حرية أوسع في اختيار حياتها الشخصية سواء رغبت في أن تعيشها مع شريك أم وحدها. وبين التسليم والرفض هناك من يحاول إقناعك بحجته، مقابل آخر غير مقتنع في الأساس بأفكار يعتبرها بالية تعود إلى حقبة الجهل والجاهلية.
في يومنا هذا هل لا تزال العانس تحت رحمة المجتمع، أم إن العصر تغير ؟
(الفتاة التي تتقدم في السن ولا تتزوج (عانس) في نظر المجتمع وتحت رحمته،والعصر تطور ولكن أفكار الذين يعيشون فيه لم تتغير). هي التجربة الشخصية التي تقود (أسماء القادري) لديها محل أزياء وتصميم فساتين الزفاف، إلى الاعتراف بهذا فتكمل: (الأهل أيضاً من أفراد هذا المجتمع الذي لا يرحم العانس ،لا تزال الأفكار المتخلفة تأخذ حيزاً كبيراً من أفكارهم وتمنعهم من التطور مع التطور الحاصل ،فتراهم أكثر من غيرهم يضيقون الخناق على ابنتهم الكبيرة في السن لكي تتزوج، وحجتهم أنهم يخافون عليها وأمنيتهم أن ترتبط ليطمئنوا إلى مستقبلها). تتنهد أسماء وتتابع حديثها بشيء من التهكم: (وكأنه لا مستقبل لفتاة إلا بالزواج). تستسلم لضحكة خفيفة وتقول:(صحيح أنني لم أتزوج حتى اليوم ولكنني لست خائفة على نفسي. أنا ناجحة ومنتجة وفعالة في المجتمع ،كما أنني أتقدم بخطا كبيرة نحو تحقيق أهداف حلمت بها وسعيت وراءها). وسألت أسماء عن رأي أسرتها بحالة العزوبية التي تعيشها،فترد ممازحة (أهلي مثقلون بغم عدم زواجي أكثر مني، لا بل هم يفكرون في الموضوع في حين أنه يغيب عن بالي معظم الوقت، من وجهة نظرهم، يجب ألا أبقى وحيدة ويفرحهم أن أكوّن أسرة وأختبر ما تختبره أية امرأة ،وأعني الارتباط برجل والاستمتاع بالأمومة.. أحترم رأيهم ولكنه لا يشكل هاجسا في نفسي ولا يشعرني بأي ضغط يذكر ،لأن اهتماماتي وانشغالاتي تلهيني عن التفكير بطريقتهم). وتنهي أسماء كلامها مكررة ما ذكرته في مستهل حديثها (العصر سبق الناس ،نعم لقد تطور لكنه لم يحمل التطور الفكري لشريحة كبيرة من أفراد المجتمع، وكأنه تركهم في زمن آخر أو في عصر سابق).
(لا يمكن لعاقل أن يتغافل عن حقيقة وجود مشكلة العنوسة في العالم العربي) بهذه العبارة تعلق الدكتورة (روعة حسين) مديرة في إحدى المؤسسات الحكومية،على الموضوع ، وتقول إن هذه المشكلة يحاول البعض إيجاد حلول لها بشكل فردي بينما يحاول البعض الآخر التقليل من شأنها. ففي السابق كان المجتمع ينظر إلى الفتاة التي تصل إلى سن الثلاثين من دون زواج ،على أنها (عانس) تعيش مرحلة حرجة تقل فيها فرص الزواج، وليس مسموحا لها اختيار مواصفات خاصة في زوج المستقبل أو وضع شروط لمن يدق بابها، بل عليها أن تتمسك بأي فرصة تتاح لها وترضى بأي شخص مقبول يتقدم طالبا يدها،حتى لو أنه لا يلبي تطلعاتها أو له تأثير سلبي فيها).
وتشير إلى (أن الواقع يشير إلى أن العديد من اللواتي تأخرن في الارتباط ،يتعرضن لحالات القلق النفسي والضغوط العصبية بسبب ما يدور حولهن (ولا سيما من العائلة) من أقاويل عن تأخرهن في الزواج. خصوصا اللواتي حساسات بطبعهن، ولديهن الاستعداد النفسي لدخول أزمات نفسية أو صراع مع الذات وصولاً إلى الاكتئاب وعدم النوم ، فقط لأنهن يعتبرن أنفسهن مختلفات عن بقية النساء ويفتقدن حياة الأسرة والأمومة. وهذا في حد ذاته نوع من الضغط المعنوي المتواصل الذي يشكله المجتمع في وجدان العانس).
وتتطرق الدكتورة روعة إلى رأي الشاب في موضوع عنوسة الفتاة، فتوضح: (إن الشاب الواعي والمثقف بات يبحث عن فتاة مثقفة ولم يعد يتأثر برغبات أهله وما يختارونه له ،وبالتالي لم يعد يتوقف كثيرا عند عمر الفتاة بقدر ما يهمه مستواها العلمي والثقافي) وتؤكد (أن نظرة الأسرة العربية تغيرت أيضا ووصلت إلى حد الوعي بأهمية دور الفتاة المجتمعي ،سواء كانت متزوجة أم عزباء، لا بل صارت تقدم لها الدعم النفسي وتشجعها على تحقيق ذاتها سواء أكان عن طريق الدراسة أم العمل).
وتختتم قولها (أعتقد أن تأخر سن الزواج له أسباب عميقة ،تكمن في عدم التوازن بين التطور الاجتماعي الذي حدث لوضع المرأة من حيث التعليم العالي والعمل ،وبين الوعي الاجتماعي العام إزاء هذا الوضع الجديد. فالكثير من الفتيات، يحجمن عن الزواج بقرار شخصي بحت ،لأنه بحسبهن يعوقهن عن تحقيق طموحهن العلمي والمهني ،ويدركن جيدا بأن مسؤوليات الزوجة العاملة مضاعفة وتحمل العبء الأكبر. كما أن الفتيات الجامعيات يجدن صعوبة في اجتذاب العرسان، لأن البعض لم يصل بعد إلى درجة الوعي التام بأهمية علم وعمل المرأة.
لـ(ريم السيد) سيدة أعمال وجهة نظر ترى فيها (أن الفتاة التي كانت تصل إلى منتصف العشرين من عمرها من دون أن تتزوج (عانس) لا محالة ،وكنت شخصيا سأنعت بهذا الوصف فيما لو لم أتزوج في سن السابعة عشرة) تبتسم السيدة ريم وتكمل (بالطبع كانت هذه نظرة المجتمع إلى الفتاة منذ مدة غير بعيدة، ولكن هذه النظرة تغيرت قليلا مع تغير الزمن ومتطلباته وأفكاره المتطورة، وساعد هذا التغيير نجاح المرأة في تمكين نفسها بالدراسة والتعليم العالي، وكذلك بالعمل الدؤوب والمتواصل على إثبات قدراتها ومؤهلاتها المتقدمة على الصعيدين، النوعي والكمي).
(لم يعد في الإمكان فرض الزواج على فتاة متعلمة اذا كانت غير مقتنعة به،ولا يلبي طموحها أو لا يتماشى مع مستواها الفكري والتعليمي). تلاحظ السيدة ريم وتفسر (لقد فرضت الأنثى نفسها كشريك للرجل في المجتمع ، وند له في خبرات العمل والمهن المختلفة ، وعرفت كيف تنال حريتها عن جدارة في اختيار حقها في الحياة وفي المجال والميدان الذي تراه مناسبا) وتضيف (في المقابل بات المجتمع ملزما بالاعتراف بحقها الشرعي هذا، ولا سيما بعد أن أثبتت له أنها تستحقه بالفعل، وبالتالي لم يعد يلزمها بالزواج كي لا يسميها عانساً، بل ترك لها حرية تقرير حياتها الشخصية بالشكل الذي تمليه عليها وجهة نظرها وقناعاتها، ويخدم مصلحتها وأحلامها).
إن الثقافة الاجتماعية في مجتمعنا الشرقي، تجعل الرجل يعتقد أن الفتاة إذا تجاوزت سنا معينا تصبح عانساً. والحل لا يكون بمعالجة المجتمع ككل دفعة واحدة، بل يبدأ من خلال تقوية شخصية الفتاة وإقناعها بأن موضوع تأخر الزواج أمر أصبح طبيعياً في مجتمعنا الحالي، ولابد للفتاة أن تكون صاحبة قوة وقناعة وإنجاز وعلم وعمل وتستطيع أن تعول نفسها، فإذا كانت على هذا المستوى لن يهمها تأخر الزواج ،أو على الأقل لن تلجأ للزواج لمجرد الهروب من كلمة (عانس). وإذا كانت بهذه الصفات لن تكون عبئا على أهلها،وسوف تحسن اختيار رجل من مستواها الفكري والعلمي.