قضايا وآراء

الجيوبولتيك الإسلامي المضطرب والمقسم

| أنس وهيب الكردي

منذ أقدم العصور ازدهرت مراكز جيوسياسية في الجغرافيا التي يحتلها العالم الإسلامي اليوم، لطالما كانت هضبة الأناضول مقراً للقوة السياسية والعسكرية منذ عهد الحثيين وحتى اليوم، وبالمثل كانت هضبة فارس، وادي النيل، ومحيط البنجاب إلى وسط الهيمالايا.
خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي شهد انتصار أوروبا على الصعيد العالمي، وبدء تشكل نظام دولي موجه من العواصم الأوروبية، وقفت أربع دول إسلامية متجاورة تتعرض لحملة ضغط مصدرها أوروبا، هي الإمبراطورية المغولية في باكستان وشمال الهند، الدولة القاجارية ومركز قوتها هضبة فارس، السلطنة العثمانية ومحور ثقلها الهضبة الأناضولية، والدولة العلوية التي حكمت وادي النيل.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر توغل الغرب، بقيادة بريطانيا العظمى، كثيراً في هذا الجيوبولتيك. تمكن من إنهاء الإمبراطورية المغولية، طوع الدولة الفارسية، احتل مصر، على حين ظل أمر السلطنة العثمانية «الرجل المريض» محوراً من محاور الدبلوماسية العالمية التي سميت «المسألة الشرقية»، تأخر الحسم بشأن هذا المريض كثيراً بسبب اختلاف الغرب على كيفية اقتسام تركته قبل إشهار وفاته. مع نهاية الحرب العالمية الأولى كانت السلطنة العثمانية صارت من الماضي، واقتسمت تركتها فرنسا وبريطانيا، على حين عززت لندن نفوذها في إيران، مصر، وباكستان والهند.
ورثت الولايات المتحدة دور بريطانيا العالمي، وقررت التحكم بمراكز القوى الإسلامية هذه وتعديل مهامها ضمن خططها الإستراتيجية. كان من السهل القيام بذلك مع باكستان، تركيا وإيران. كانت الدولة الأولى خائفة من الهند والاثنتان الأخريان من الاتحاد السوفييتي. عملت واشنطن خلال العقد الخامس من القرن الماضي، على تنظيم حائط الصد الباكستاني التركي الإيراني العربي في مواجهة التمدد الشيوعي. حالفها الحظ مع الدول الإسلامية لكن المحاولات فشلت مع الدول العربية، حيث كتلت مصر على عهد جمال عبد الناصر العرب بعيداً عن الإستراتيجية الأميركية العالمية. استفاد الأميركيون من الهرواة الإسرائيلية في عام (1967)، لتليين المقاومة المصرية، وبعد حرب 1973، استخدموا تكتيك «الخطوة خطوة» التفاوضي لجذب مصر إلى فلك بلادهم، بعيداً عن الاتحاد السوفييتي. بتوقيعها على اتفاقية كامب ديفيد انتقلت القاهرة نهائياً من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي. في الوقت نفسه، تطورت العلاقات الباكستانية الأميركية بسبب حرب (1971)، وازدهرت إبان دخول القوات السوفيتية إلى أفغانستان. وبينما كان بإمكان الولايات المتحدة في سبعينيات القرن العشرين، أن تستعرض رسوخ هيمنتها في العالم الإسلامي جاءت الثورة الإسلامية في إيران لتسدل الستار على أحد أقوى حلفاء واشنطن وتضعف الإستراتيجية الأميركية مقابل الاتحاد السوفييتي.
غياب الاتحاد السوفييتي كان بمنزلة النقمة على تلك الدول، لأنه أفقدها وظيفتها الحيوية في احتواء الشيوعية، وجاءت أحداث 11 أيلول لتجعلها أكثر ارتباكاً. مارست واشنطن ضغوطاً جادة وقوية على باكستان، بسبب تنظيم «القاعدة» في أفغانستان، وعلى إيران بذرائع شتى. حتى مصر على عهد حسني مبارك لم تنج من الضغط الأميركي. ولطالما استشبهت أنقرة بالنيات الأميركية حيال الأكراد في المنطقة، جراء دعم واشنطن للأحزاب الكردية في بناء استقلال ذاتي بعيداً عن بغداد بعد فرضها مناطق الحظر الجوي في شمالي وجنوبي العراق.
واليوم، تعاني المراكز الجيوسياسية الأربعة من ضغوط أميركية شديدة تستهدف إعادة ترسيخ هيمنة واشنطن عليها، لتأكيد السيطرة الأميركية على مناطق الحزام البري الأكثر إستراتيجية في العالم («الحافة» المحيطة بالقلب).
وبينما يبدو أن الدول الإسلامية الثلاث باكستان، إيران، تركيا، وكأنها تصطف معاً لمواجهة الضغوط الأميركية عليها، تبدو مصر التي تحاصرها تحديات إقليمية مختلفة، سواء في فلسطين، ليبيا، السودان ونهر النيل «بعضها ليس ببعيد عن الأصابع الأميركية»، غير قادرة على اتخاذ اتجاه محدد.
أكثر مما كان في القرن التاسع عشر، بات مصير العالم الإسلامي متعلقاً بما يحصل لتلك المراكز، وبالسياسات التي تقرر اتباعها وقدرتها على إرساء تعاون جدي بينها، وأخيراً تطور تعاون مع القوى العالمية الأخرى «الصين وروسيا».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن