الإستراتيجية الأميركية في الشمال السوري.. قد تبلور تحالفات الضرورة
| محمد نادر العمري
بالتزامن مع الإنجازات الميدانية التي يحققها الجيش العربي السوري والحلفاء بريف إدلب الجنوبي الغربي، واقتراب استعادة مطار «أبو الظهور» العسكري، كشفت الإدارة الأميركية ملامح مخططها الذي بدأ يتبلور مع انهيار تنظيم داعش الإرهابي بإقامة كيان كردي مستقل، وعزمها تشكيل قوة تحت مسمى «حماية الحدود في الحزام الأمني الممتد من أربيل وحتى المتوسط على طول الحدود السورية التركية» بذريعة منع عودة تنظيم داعش وفق ما أعلنه المتحدث الرسمي لقوات التحاف الأميركي ريان ديلو.
هذه القوات التي تجاهر واشنطن بإنشائها ستتخذ من الرقة السورية قاعدة رئيسية لها، تتألف من 30 ألف مقاتل نصفهم من ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» الذين سيشكلون عمودها الفقري والقيادي، في حين يعكف البنتاغون بواسطة خبرائه على تدريب النصف الآخر وتلميع صورة الدواعش السابقين، ليتبين أن ادعاء واشنطن بمحاربة الإرهاب وتشكيل تحالف دولي لهذا هدف، جاء خدمة لإستراتيجيتها لتحقيق الأبعاد التالية:
1. استنزاف المنطقة الممتدة من غرب العراق وشرق سورية، وتحويلها لكيان هش يمهد لظهور قوى انفصالية تمتلك موارد ذاتية لترسيخ طموحها بغطاء سياسي أميركي يسعى لإطالة أمد الأزمات والحروب في هذا المنطقة.
2. نقل مركز الثقل الأميركي إلى الخارطة الجغرافية الواقعة ضمن دائرة حدود الالتقاء السورية العراقية التركية، واتخاذ إجراءات لوجستية عسكرية من إقامة قواعد وإنشاء وتوسيع مطارات، بذريعة حماية الأقليات للحفاظ على نفوذ واشنطن ومصالحها وبما يساهم في تسهيل تدخلها بالشؤون السياسية لهذه الدول، وعرقلة الخط البري الواصل بين محور المقاومة بعد عزل قاعدة التنف.
3. زيادة توسيع حضور الناتو في المساحة التي تحتلها القوات الكردية الموالية للانفصال، والتخلص من الابتزاز التركي عبر إفراغ الحضور العسكري للناتو من مطار أنجرليك واعتماد مطار رميلان عوضاً عنه، وقلب السحر على الساحر من خلال استبدال الأدوار بما يتيح لواشنطن ابتزاز أنقرة بتهديد أمنها القومي من خلال «الفزاعة الكردية».
4. اعتماد واشنطن على القوات الكردية لتنفيذ مشروعها الفيدرالي، يشير لمعطى في غاية الأهمية، يدور فحواه إلى قدرة واشنطن لجذب معظم السياسيين الأكراد نحو المظلة الأميركية، واستثمار عدائهم مع كل من إيران وتركيا والعراق وسورية واستمرار تنسيقهم مع الكيان الإسرائيلي، وبالتالي تكون واشنطن قد تخلت بشكل شبه كامل عن العشائر العربية باستثناء تلك التي تقبل بالرضوخ للانفصال مقابل إغراءات مادية أو وعود بمناصب سياسية، تنفيذاً للاتفاق الذي توصل إليه مستشار الأمن القومي الأميركي مع نظيره الإسرائيلي في 18 كانون الأول عام 2017 بزعزعة أمن المنطقة ضماناً لأمن الكيان الغاصب، والذي أكده موقع «ديبكا» الإسرائيلي والمقرب من حكومة بنيامين نتنياهو في بداية الشهر الجاري، نقلاً عن مصادر سعودية حيث أكدت هذه أن إدارة ترامب تستعد لتقسيم سورية من خلال إقامة دولة كردية في المنطقة بمساحة تزيد عن 12 بالمئة من مساحة سورية.
5. عرقلة اتفاق مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي والمزمع عقده في 29-30 من الشهر الحالي، أو إفراغه من أهدافه ومخرجاته.
يبدو جلياً أن التكتيك الأميركي الجديد اغضب جميع دول المنطقة باستثناء الكيان الصهيوني، ومن غير المستبعد أن تعيد فرز التحالفات في المنطقة على قاعدة «القبول بتحالفات الضرورة»، فدمشق وموسكو وطهران وبغداد وأنقرة أصبحت اليوم ودون إرادة مسبقة، ضمن خندق واحد ضد العدو المشترك والمفتعل بفعل السلوك السياسي الأميركي الذي يهدد أمنهم القومي، لعدة أسباب:
أولاً، الخريطة الجغرافية المستهدفة من جراء هذه التقسيم وإقامة كيان كردي لا ينحصر فقط ضمن الأراضي السورية بل سيمتد للإطار الجغرافي الإقليمي ويعزز الفكر الانفصالي، ويساهم في نشر الفوضى ويشرعن وجود الكيان الصهيوني العنصري.
ثانياً، لا يمكن لأي قوى مواجهة هذا المشروع لوحدها، مع أفضلية يتمتع بها الجيشان العراقي والسوري، نتيجة الخبرة التراكمية التي اكتسباها في محاربة إرهاب داعش، وامتلاكهما عنصر الشرعية المكتسبة من القانون الدولي والميثاق الأممي في مواجهة التواجد الأجنبي عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، فضلاً عن ثمار التنسيق وتبادل المعلومات الذي حصل مع بدء معركة الفجر الكبرى.
الجانب الروسي لا يبحث عن صدام عسكري مباشر مع نظيره الأميركي، ولكن في الوقت ذاته لن يقبل بانهيار ما حققه سياسياً وعسكرياً في المشهد السوري خلال السنوات الماضية، وقد بادر ليكون عراب هذه الجبهة والمتحكم بالسلوك التركي الذي سارع مؤخراً لتبرئة نفسه من اعتداءات الطائرات المسيرة على حميميم وطرطوس، وزود الدفاع الروسية بمعلومات حولها، لضمان تموضعه والحفاظ عليه.
في ذات الوقت، لا تستطيع أيضاً أنقرة مواجهة هذا المشروع بمفردها، رغم التصريحات النارية لرئيس نظامها رجب طيب أردوغان الذي توعد «بوأدها» كما زعم، ودخول قواته سواء إلى عفرين أو شرق الفرات سيواجه برد سوري محتمل، لذلك يحتاج لتنسيق غير مباشر على الأقل، مع حكومة دمشق عبر الوسيط الروسي، ولاسيما أن معركتها الكبرى التي تحضر لها تحت مسمى «سيف الفرات» التي تضم بقايا فرق 101 و105 و106 وبعض العشائر الرافضة للمشروع الانفصالي، ستكون في غرب الفرات وهذا سيؤدي لصدام بين دولتين في الناتو، وتخشى بذلك تركيا أن تجد نفسها معزولة وفي صدام مع الروس وحلف الشمال الأطلسي.
ثالثا، أما الجمهورية الإسلامية الإيرانية فهي تتلمس هذا الخطر الذي وجهه مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد ساترفيلد منذ أيام في جلسة لجنة الخارجية بمجلس الشيوخ زاعماً أن «إستراتيجية بلاده مازالت ترى أن شرق سورية ساحة لاحتواء النفوذ الإيراني».
من غير المستغرب أن نرى سيناريو جبهة التنسيق بين الخصوم، تتبلور خلال الفترة القادمة، ولكن هذا يتطلب أمرين: الأول هو توقف تركيا ونظامها السياسي من التنصل من التزاماتها وتعهداتها انطلاقاً من الوقاية ضد المخاطر التقسيمية التي تهدد بلاده، وثانياً قراءة واقعية من قبل أكراد عفرين ومنبج للمتغيرات الميدانية والخطورة التي قد تهددهم إن لم يعلنوا قبولهم بعودة الحكومة السورية إلى هذه المناطق وانضمامهم مع قوى الجيش السوري ليتمايزوا بذلك عن القوى الكردية الأخرى الموجودة غرب الفرات، التي ستكون ساحة الاشتباك المتوقعة في معركة المصير والوجود.