الشمال السوري بين احتلالين: عندما يرفض الانفصاليون «حضن الوطن»
| فرنسا- فراس عزيز ديب
هل تذكرونَ بيتَ الشعر: ما كانتِ الحسناءُ ترفعُ سترَها لو أن في هذي الجموعِ رجالا؟
هي ليست حسناء؛ بل هي أكثر قبحاً من المتاجرينَ بصورهِم وهم يوزِّعون «معوناتٍ» على أبناء الشهداء والجرحى، هي أكثر قبحاً من استخدامِ عبارة «الجماعات المسلحة» بديلاً من «الجماعات الإرهابية» بذريعة الموضوعية، بل قد تفوقُ بقباحتها خطاباً تنظيرياً من أصحاب مبدأ «لا صوتَ يعلو فوق صوتِ المعركة» يعرِّفون فيه الشعب معنى الصمود! لكن ماذا عن سِترها؟
هي لا تمتلك ما يستُر عورتها، لكنها لا تكترث بالمقولةِ الفرنسية: «ماذا لو لم يعد لديها ما تخلعه»؟
هي أساساً تمارس ليبرالية الجسد كما يتوهم بعض المستثقفين العرب والسوريين أنهم يمارسون ليبرالية الفكر وهم بالحقيقة مجرد نسخة مزيفة عن العلمانية الحقة، هي قادرة أن تصنع من جسدها سلَّماً للدرجة التي تشاءَها، تماماً كما يقوم «العلمانيون الجدد» بجعل الشتائم وإلغاء الآخر تعبيراً عن علمانيتهم، واهمٌ أساساً من ظنَّ أنها كانت تمتلك يوماً ما يسترها، فهي تعرَّت منذ ولادتها، لكن المشكلة تكمن ببصيرةِ الناظر وليس بمكانةِ المنظور، فماذا عن الجُموع؟
هم ليسوا جموعاً فالجموع عادةً ما تجتمع على أمرٍ وتختلف على أمور، هؤلاءِ مجرد قطعانٍ ينقادون نحو ذاك الجسد الذي لم يعد هناك ما يستره، لأنهم لم يفقدوا بصيرتهم فقط في النظر إليها وظنها حسناء، هم أساساً يتوهمون أنهم يعيشون رجولةً، وتناسوا أن الرجولةَ موقف، وهم ليسوا قادرينَ حتى أن يأخذوا موقفاً للانتظارِ في طابورها الخاص دون إذنها، ببساطة هي باختصار حكاية السياسة الأميركية في هذا الشرق البائس، ليس فقط مع قطعانها، لكن مع كل من لا يزال يتوهم أنها جنةُ الإنسانية.
في الخطاب الذي ألقاه قبل أيام في جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا، لخَّص وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الهدف الحقيقي لسنوات الحرب السبع على سورية، من اللحظة التي اتُّهم فيها الأمن السوري زوراً باقتلاعِ أظافر أطفال في درعا، إلى اللحظة التي اقتلع فيها السوريون بالأمس أظلاف الإرهاب العثماني وملحقاته في مطار «أبو الظهور»، ليثبت بكلِّ وقاحةٍ أنهم من تلكَ الأظافر إلى هذه الأظلاف يقاتلوننا من أجل حقيقةٍ واحدةٍ فقط: لن نسمح بانتصارٍ كاملٍ للسوريين.
إن كلام تيلرسون لم يدفعنا فقط للجنوح نحو الصياغة الأدبية في التعاطي معه كونه كلاماً لا يحتاج أساساً للغةِ التحليل السياسي والتقاطعات في المواقف والتصريحات معَ من سبقوه ولا من سيأتونَ من بعده، لكنه جعلنا ننظر إلى كلامهِ بعينِ الحسد على صراحتهِ المفرطة، لأنه كما رئيسه دونالد ترامب يتحدثون من دون أي رتوش يحاولون إظهار الصورة الحقيقية والصريحة للولايات المتحدة، مع إدراكنا التام أن هناك شعرة تفصل بين الوقاحة، والصراحة، فالأميركيون حسب تيلرسون سيسعون للاحتفاظ بالقواعد الأميركية في الشمال السوري حتى إتمام الانتقال السياسي ورحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة، لكن تيلرسون الذي أكد أن أي انتخابات «حرة ونزيهة» قادمة ستفضي حكماً لهذا الرحيل، لم يشرح لنا كيف يمكن لهذه الانتخابات أن تكون «حرة ونزيهة» في ظل وجودِ قواعدَ عسكرية أميركية غير شرعية، تتحالف مع ميليشياتٍ خارجةٍ عن القانون؟!
أما حديث تيلرسون عما سماه «مواصلة الضغط الاقتصادي على (الرئيس) الأسد» فهو يثير السخرية، لأن هذا الكلام يُراد منه استمرار ممارسة الحصار الاقتصادي على الشعب السوري أولاً وأخيراً، أي أنهم يريدون معاقبة كل سوري، أياً كان موقفه السياسي، رفض أن يكون جزءاً من القطيع المطبل للأميركي والعثماني، وبقي في مناطق سيطرة الدولة، وهو شيء ليس بالجديد، لكن عندما يتم ربطه بالإستراتيجية الأميركية في سورية والهدف من استمرار وجود قوات الاحتلال الأميركي، هنا علينا أن نطرح أكثر من علامة استفهام حول واقع الوجود الأميركي وآلية التخلص منه، تحديداً أن تيلرسون حاول الربط بين الوضعين السوري والعراقي والخروج الأميركي من العراق الذي اعتبره «خطأ لن يتكرر».
لكن في المقابل لماذا علينا أن نحمِّل الأميركيين كل شيء، وبمعنى آخر: هل كان الأميركيون ليقوموا بما قاموا به لولا وجود ذاك القطيع الذي يسهِّل لهم مهمتهم، إذا افترضنا يقينا بأن الولايات المتحدة لا تمتلك من القيم الأخلاقية والإنسانية إلا كما يمتلك «آل سعود» القدرة على التفكير دون اللعب بأصابع أقدامهم، لكن ماذا عن القطعان الانفصالية التي كانت ولا تزال هي بيضة القبان في كل ما يجري، أليست هذه القطعان هي الصورة «القومية» عن التطرف الذي منح بشقه «المذهبي» تسهيلات للأتراك وصلت حتى القيام بالقتال تحت علمها.
المشكلة الحقيقية تبدو في هؤلاء وليس في الأميركيين أنفسهم لأن السياسة الأميركية معروفة منذ تأسيسها بأنها بنيت على فكرة «الاستثمار في الفوضى»، لكن هناك من يريد اليوم أن يسرق أرضاً، ويبني دولة ويغدر بوطنه انطلاقاً من هذه الفوضى فما حدود النجاح والفشل لتصريحات وزير الخارجية الأميركي؟
منذ إعلان الأميركيين الحملة لما سموه «تحرير الرقة» بدا واضحاً أن ما يرسمون إليه معادلة بسيطة: الرقة تعني سورية.
هذا الأمر كان واضحاً من السلوك الأميركي الذي سبق الحملة، فهو قدم حليفهُ التركي على مذبح الرغبة بتقسيم سورية عندما أصرّ على أن تكون عملية التحرير بعهدةِ ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، الأمر الذي رفضه رئيس النظام التركي وجعل العلاقات بين الجانبين تنفجر، النقطة الثانية هي آلية تدمير المدينة بطريقة ممنهجة، فحجم الدمار الذي لحق بالمدينة وباعتراف وكالات الأنباء العالمية يصيب كل من دخلها بالصدمة، أي إن الهدف ليس احتلال المدينة فحسب بل طمسَ معالمها تمهيداً لما يجري عليها من عمليات تطهيرٍ عرقي تتيح تنفيذَ الوعد الأميركي للانفصاليين الأكراد، أما النقطة الأهم فهي محاولة الأميركي ضرب أي محاولةِ التقاء بين الجانبين الرسمي السوري والفصائل الكائنة في الشمال للوصول لتفاهم مشتركٍ بوساطةٍ روسية، جميع هذه الوساطات كانت تفشل لأن الأميركي كان يريد لها ذلك، بل قد لا نبالغ إن قلنا أن الجانب الكردي أساساً كان يحضرها من بابِ رفع العتب أمام الروس لاستمرار العلاقة معهم، أي إن تلك الميليشيات حسمت مصيرها وخياراتها وبمعنى آخر: لن ينفع معها ما قاله يوماً وزير الخارجية وليد المعلم عندما تحدث عن التفاوض مع المطالب الكردية بما فيها إقامة نظام إدارة ذاتية، ولا كلام نائب وزير الخارجية فيصل المقداد عن استعداد الجيش العربي السوري للدفاع عن عفرين في وجه أي تدخل عسكري محتمل؛ فماذا ينتظرنا؟
لنتفق بموضوعية كاملة أن الشمال السوري سيكون هو العقدة، والأميركي عملياً لن يفرط بهذه الورقة بل قد يمضي الجنون الأميركي لافتتاح قنصلية أميركية ليزيد من بيعِ الوهم لمن هم قطيعٍ في ركبه، لكن الأسوأ من ذلك ربما قد لا يكون قد حدث بعد، فماذا لو اكتشفنا مستقبلاً أن كل الجعجعة الأردوغانية حيال الشمال السوري هو بالنهاية استكمال لمسرحيةٍ ما مع الأميركيين، هو احتمال قد يكون بعيداً عن الواقع لكن من جهةٍ ثانية هناك ما يدعم فرضية أن ما يجري قد يبدو تفاهماً يضمن تقسيمَ سورية مع ضماناتٍ للأتراك بأن الطموحات الكردية ستقف عند هذا الحدود، وأن وجود القواعد الأميركية والتمثيل الدبلوماسي في الشمال السوري هو صمام أمان لذلك، وإلا لماذا لا يتحرك ملايين الأكراد في الجنوب التركي على الأقل ضد تهديدات أردوغان باجتياح عفرين؟ علماً أنهم فعلوا كل هذا عند حدوث مسرحية هجوم داعش على «عين العرب». كذلك الأمر إذا كان دخول الجيش العربي السوري لعفرين سيمنع المغامرة التركية فيها فلماذا قامرت الميليشيا الانفصالية بمصير المدينة، وهل حقاً كان لديها ضماناتٍ أميركية بعدم حصول الهجوم؟ هذه الأسئلة بالنهاية وإن كانت تؤكد تشعب الأمر وتشابكه في الشمال السوري لدرجةٍ استنفرت فيه الميليشيات الإرهابية للقتال تحت الراية الأردوغانية، لكنها كذلك الأمر تؤكد أن أردوغان كما كل المتورطين بالحرب على سورية ما زالوا يمتلكون القدرة على القتال بدماء غيرهم، كيف لا ونحن اكتشفنا أن ما بين ظهرانينا من قطعانٍ تسير من دون بصرٍ وبصيرة آلافاً مؤلفة، عندها فقط علينا ألا نفكر أبداً بالسعي لاستعادتهم للطريق القويم، الحل الأمثل هو بإخفاء البغاء السياسي الذي تمارسه تلك العارية، اقرؤوا التاريخ لأنه وإن كان يعطينا بديهية مهمة بأن ما من قواعد أقامتها أميركا خلسةً في أي بلدٍ إلا بوجود خونةٍ يضربون بسيفها، لكنه كذلك الأمر يُعلمنا بأنه من الوهم الاعتقاد بأن قواعدَ أميركية رحلت يوماً بمن فيها ومعها بالمفاوضات.