ثقافة وفن

لماذا غابت ثقافة المحافظة على الملكية العامة؟ .. المقامات والأضرحة والكنائس والمساجد معالم تاريخية وإنسانية … ثقافة المحافظة على المنشآت تحتاج إلى ترسيخ في الناشئة وهذه مهمة وزارات الثقافة والأوقاف والتربية

| إسماعيل مروة

من المهم طرح هذا الموضوع وخاصة لما رأينا من تعامل غير حضاري مع المنشآت ذات الملكية العامة، وخاصة بعد أن تجاوزت الاعتداءات الحدود الممكنة على المنشآت ذات الملكية الخاصة، ويتفرع عن هذا الموضوع عنوانان مهمان لابد من الوقوف عندهما قبل الدخول في صلب المحور.
– الثقافة ودورها.
– الملكية العامة.
ما دور الثقافة؟ وما المهام الملقاة على عاتق الثقافة؟ وهل تستطيع الثقافة أن تؤدي مثل هذا الدور؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، لابد من تحديد دور الثقافة، فالثقافة فعل توعوي غاية في القيمة، وعندما ينكره أي مجتمع يدخل في محظورات كثيرة، وعندما تخلت المجتمعات عن الثقافة، وسلبتها دورها، وجعلتها هامشية وصلت إلى فوضى غير معروفة النتائج.

إن مشكلتنا في سورية وفي المنطقة العربية عموماً هي مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى، وعندما تخلت الدول عن دورها الثقافي قامت جهات أخرى خطرة بملء الفراغ الكبير الناجم عن تقلص دور الثقافة، ودور الثقافة نابع من كونه فعلاً تراكمياً لا يخضع للتلقين والتوجيه، ويمكن أن يؤدي أدواراً مهمة للغاية من دون أن يكون مزعجاً أو موجهاً، فدور الثقافة مجانب للوعي لا يمكن إنكاره، والفعل الثقافي يتميز بميزتين مهمتين لا تتحققان في سواه:
أ- فعل جماعي يمكن أن يؤدي نتائج عقيمة يلمس أثرها.
ب- فعل فردي أناني، فالفعل الثقافي لا يهمل دور الفرد المثقف، سواء أكان مسؤولاً أم لم يكن وهذا الفعل ينسب لصاحبه ويحقق له نشوة الأنانية والشعور بالنجاح الفردي.
لذا يجب، أو يفترض أن يولى الفعل الثقافي أهمية كبرى لما يحققه على مستوى فردي وعلى مستوى جمعي، وهذا ما لا يحققه أي فعل اقتصادي أو اجتماعي آخر، كذلك إن هذه القراءة هي التي تبيح لنا القول: إن تراجع الفعل الثقافي الإيجابي هو الذي يتيح الفرصة لنزول توجهات ثقافية سلبية مكان الثقافة الإيجابية التي يحتاجها المجتمع وأطيافه كافة، وخاصة أن الفعل الثقافي- على الغالب- لا يحمل لبوساً طيفياً إلا في حالات موجهة عقائدياً أو سياسياً أو دينياً.
وفي الحالة التي يعيشها وطننا العربي منذ ثماني سنوات وأكثر ابتداء مما حدث في تونس ثم مصر ثم ليبيا فاليمن وسورية، ومن قبل عقود العراق، سببها الأساسي غياب الثقافة الوطنية النوعية، وهنا لا حاجة لتوصيفها، لأن الثقافة الوطنية النوعية تستوعب كل ما هو إيجابي وفي مصلحة الأوطان وما نتج في هذه البلدان من:
– ظهور الفوضى
– ظهور ثقافة التدمير
– ظهور ثقافة القتل
يظهر ذلك الاحتقان الفكري في طبقات المجتمع كافة والتي تم استغلالها لتتحول إلى ثقافة بديلة سلبية وهجينة، وفي سورية الوحيدة بين هذه البلدان التي تعتمد مبدأ الجيش العقائدي، ومبدأ المؤسسات. بدأت علائم النصر على الهمجية بالتبلور، لذلك تأتي هذه الدعوة في توقيتها وزمانها للحديث عن ثقافة المحافظة على الملكيات العامة- مهما كان نوع هذه الملكيات- وقد لمس الجميع تلك الفوضى التي انتابت الملكيات العامة والإنسانية في كل البلدان العربية.
1- المتحف المصري: في الأيام الأولى للحراك في مصر تم العبث بالمتحف المصري ومقتنياته، والعمل على تدمير محتوياته، وقد تنادى المثقفون والفنانون لحماية هذا المعلم، وليخرج العالم الآثاري المصري حواس ليخبرنا بأن المقتنيات الحقيقية بأمان، وأن مظاهر العبث وتدمير الممتلكات المصرية من الآثار الفرعونية والمصرية ألحقت أذى كبيراً، لكنها لم تستطع أن تصل إلى جوهر القيمة للآثار، هذا الكلام مطمئن إلى أن كنوز مصر تحت السيطرة، ولكن مجرد التفكير بالانتقام من هذه الآثار وتدميرها بدعاوى عديدة هو أمر سلبي غاية في السلبية، فهي ليست طرفاً في الصراع الفكري والسياسي.
2- المنشآت النفطية الليبية: رأينا ما حل حول المنشآت النفطية الليبية من صراع، واحتلال لها ثم استرداد ثم تقاسم، وهذه المنشآت، وإن كانت من قبل تتوجه إلى شريحة من الناس بفوائدها، إلا أنه يجب أن تعامل معاملة الثروة الوطنية والمنشآت العامة التي يفترض المحافظة عليها لتعود بالخير والتنمية على المجتمع كاملاً، ولكن الصراع أخذ سبلاً أخرى، فهو صراع على الثروة وتمويل الفوضى إلى أمد غير محدد، لذلك لم يعبأ هؤلاء بإحراق المنشآت والنفط، لأنه يشكل مصدراً لاستمرار الجماعة التي تسيطر عليه، وخاصة أنه في الحالة الليبية لم يعد من وجود من دولة أو دولة بديلة، وكانت الساحة لجماعات جديدة تريد الهيمنة، والمنشآت النفطية والموانئ جزء منها.
3- المدن السياحية التونسية: تمتلك تونس مدناً كاملة للسياحة بمنشآتها مثل الحمامات، والمدن التراثية مثل سيدي بوسعيد وغيرها، وكل هذه المناطق كانت ساحة للفوضى والحركات الأصولية وللحراك، وإذا استثنينا مدينة (قرطاج) التي لم ترد عنها أخبار، ولا عن النيل منها فإن المدن السياحية والسياحة في تونس في أغلبها سياحة اصطياف تم ضرب البنية التحتية لها، فخسرت تونس أهم معالمها ومصادرها السياحية.
4- الجامع الأموي في حلب: لن أستعرض تاريخ هذا المسجد، الذي كان نموذجاً مصغراً عن أموي دمشق، وكان جامعاً مركزياً بدلالاته، وهناك من يقول: إن المسجد الأموي في حلب ليس بذلك الغنى، ولا يحمل نفائس معمارية أو مخطوطات أو كنوزاً، ويتجاهل هؤلاء القيمة الآثارية والدلالية لهذا المسجد.
5- أسواق حلب القديمة، تلك الأسواق تمثل نموذجاً فريداً للأسواق التراثية والتي تقترب من قلعة حلب لتعطي نكهة الترابة الحلبية والصابون والزعتر الحلبي، وكل ما تكنزه حلب من ذاكرة والاعتداء على هذه المنشآت، وإن كانت خاصة في أغلبها، يهدف إلى ترك حلب بلا ذاكرة، وهذا أمر من المحال أن يحدث، لكن تدمير جزء من ذاكرتها يعيدنا سنوات طويلة إلى الخلف، ناهيك عن تدمير الفنادق الأثرية والبيوت القديمة، والمحاولات العديدة للوصول إلى قلعة حلب.
6- تدمر وآثارها وعلماؤها: عششت الفوضى في تدمر وآثارها، وتم تدمير الكثير من الأعمدة والمعابد تحت ذرائع أيديولوجية ودينية وما شابه، وقد نقلت محطات التلفزة مشاهد التدمير، وقد أخبرتنا المديرية العامة للآثار والمتاحف ووزارة الثقافة أن هذه المدينة تم نقل آثارها إلى مناطق آمنة، وهذا يشبه ما حدث في المتحف المصري في الحديث عن القطع الأصلية والنماذج، ولكن هل يكفي أن تنتقل القطع الثمينة حسب رأي المقيمين وتبقى الأعمدة والشواهد عرضة للفوضى؟
إن مشاهد تدمر تدمي الروح وقد آلت بأعمدتها وساحاتها ومعابدها إلى خرائب، وفوق ذلك ما تم من عمليات نبش وهدم وسرقة، ويضاف إلى ذلك ما تم من تدمير لكنائس ومساجد وآثار ذات قيمة إنسانية عالية في مدينة حمص على وجه الخصوص من كنيسة أم الزنار والسيدة ومسجد خالد بن الوليد.
7- آثار العراق: رأينا أيضاً ما تم من تعامل مع آثار العراق، سواء من تهديم وتخريب، أو سرقة ونقل إلى متاحف العالم بالتعاون مع المافيات المتخصصة بالآثار، ليبقى العراق وسورية أرضاً جرداء، تم تمشيطها من الجماعات المسلحة الإرهابية، لكن ثمن هذا التمشيط كان كبيراً، وأصبحت خالية من كل الكنوز ذات القيمة التي تشكل ثروات البلدين، ومصدراً غالباً لمرحلة ما بعد الفوضى.

بين العام والإنساني
من المفترض ألا تأخذ الباحث الحمية والشعارات عن الأبعاد الحقيقية لما جرى ويجري، فما عرضت له في أغلبه ينضوي تحت عنوان التراث الإنساني، والذي لم يعد ملكية للإنسان الذي يشرف عليه، بل هو ملكية للتاريخ والإنسانية، وبعض الذي تم تدميره يعود لملكية عامة، والغايات الأساسية لهذا التدمير الممنهج:
– تدمير التاريخ الإنساني للمنطقة.
– إلغاء هوية المنطقة.
– خلق هويات جديدة تخضع لما هو موجود.
– سرقة الكنوز والآثار ونقلها إلى أماكن أخرى اختارها الأقوياء.
– تدمير البنية التحتية للبلدان العربية لإلغاء نهوضها، أو تأخير هذا النهوض على أقل تقدير.
– فتح المجال للشركات العالمية للاغتناء بإعادة الإعمار.
– استنزاف الثروات الطبيعية وإبقاؤها رهينة الديون، ومثال ذلك نفط العراق الذي يعد من أغنى دول العالم، لكنه صار أسير الرهن وسداد الديون.
– تمويل تدمير المنطقة من ثرواتها وكنوزها.
وقد اختارت دوائر القرار بتدمير المنطقة عناصر التدمير بعناية فائقة:
1- جماعات مؤدلجة من أبناء البلدان لم تعد قادرة على رؤية شيء سوى ما تمليه عليهم أيديولوجيتها.
2- جماعات خارجية مأجورة لا يعنيها البلد، ولا تعنيها آثاره، وتاريخها لا شيء.
3- عناصر داخلية وخارجية حاقدة مستعدة للتدمير والقتل والنهب.
4- شركات متخصصة في التدمير والنقل وما شابه.
وحين يصبح الحفاظ على الحياة الآدمية هو الغاية يضمحل الرأي القائل بالحفاظ على الملكية العامة أو الملكية الإنسانية، إلا من خلال بعض الحماة والسدنة كما كان من شأن خالد الأسعد الشهيد الذي حافظ على آثار تدمر حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
ومن أسف فإن كل الدمار الذي حصل في الآثار والملكيات العامة لم يستنفر سوى قلة قليلة من النخبة التي تعي حقيقة ما يجري ومخاطره، وهي ليست منغمسة في الحرب والدمار والقتل، وهذه النخبة تدرك قيمة الحجر والعمود والقطعة والقبور ومحتوياتها، أما الأعم الأغلب من الناس فتعاملوا مع هذه الموضوعات على أنها حجارة، ولم يكترثوا لخرابها ودمارها، والسبب غياب الثقافة التي كان من المفترض أن تجعل كل إنسان من سلالة زنوبيا أو الفراعنة، وهذا ما يفترض أن يبدأ العمل عليه بعد أن بدأت بشائر الانتصار على العدوان بالظهور إلى العلن، لأن هذه الملكيات بحاجة إلى إشاعة ثقافة المحافظة عليها في المراحل القادمة لئلا تتكرر هذه التجربة المريرة.

الآثار المترتبة عن التخريب
لابد عند الحديث عن الملكية العامة من الحديث عن الآثار المترتبة بشكل جمعي ومجتمعي لأن الحديث عنها يشكل مدخلاً للثقافة، فأي اعتداء على الملكيات الخاصة، وهو منكر ومستنكر، تقتصر أضراره ومضاره على الفرد فقط، لكن أي نوع من الاعتداء على الملكيات العامة له آثار جمعية وآثار فردية، وهذه الآثار من الخاص إلى العام.
1- الأثر المادي: إن أي اعتداء على الملكيات العامة لن يتم إصلاحه إلا بشكل مادي، وتتحمل الدولة مهمة إعادة الترميم والإعمار بالتعاون مع شركات، وهذا يؤثر في الوضع المادي العام للدولة والمواطن ومن ثم يقع الفرد تحت عبء الأثر المادي بشكل مباشر، فكما تحمل العبء عند بناء البنية التحتية من قبل فكذلك سيتحمل من جديد، ولن يتم إعفاؤه بأي شكل من الأشكال، لأن مجمل الملكيات العامة يتم العمل عليها من واردات الدولة، والضرائب جزء مهم، وإن لم يكن في بلداننا العربية واضحاً وشفافاً- والمواطن هو الذي يؤدي هذه الواجبات الضريبية.
2- الأثر التاريخي: في الظروف العادية يتغنى كل منا بالآثار، وإن كان غير مدرك لقيمتها، فهو يتحدث عن تدمر وعن الأموي وعن الخانات والتكايا والأقواس والمسارح والمعابد، وعلى التوجه الثقافي أن يبدأ البحث بمخاطر أن يتحول الفرد إلى شخص بلا تاريخ، لا يوجد لديه ما يباهي به.
3- الأثر السياحي: عندما تفتقد الدولة مواردها الطبيعية والثروات، فإن تاريخها الإنساني، والملكيات العامة فيها تتحول إلى مصدر دخل، ومصدر إثراء للدول والأفراد، فالذين يعيشون على الآثار الفرعونية المصرية قسم كبير من الناس، سواء في المتاحف أم الأهرامات، أو المواقع، أو التحف واللوحات، أو الصناعات التقليدية المحلية ذات الطابع التاريخي، وكذلك الأمر في سورية من أموي دمشق وقلعتها وأسواقها إلى تدمر ومعابدها وأعمدتها، إلى أوغاريت ورأس شمرا وغيرها، وفي سورية كمية من الأضرحة والمقامات والمزارات الإسلامية والمسيحية ما يكفي لجعلها قبلة سياحية كبرى.
4- الأثر الثقافي: إن هذه الملكيات العامة والإنسانية لها تأثير ببعد ثقافي يحقق الهوية الوطنية والقومية والإنسانية المغرقة في القدم، ويعطي تفسيرات غير محدودة لثقافة المنطقة، وأي اعتداء عليها يشكل اعتداء على الثقافة والهوية.
وهنا لابد من الوقوف عند بعض المفاهيم حول الملكية العامة والإنسانية، ومكانة الدولة من هذه الآثار:
أ- الملكية العامة: منشآت ذات نفع عام، وتشمل كل منشأة ذات نفع عام وتعود ملكيتها للدولة ومنها:
– المنشآت الخدمية.
– المنشآت العقارية.
– المنشآت العلمية.
– المنشآت الصحية.
يلحظ من أسمائها أنها ليست ملكية خاصة، وأن الملكية والإشراف للدولة، ولكنها تتوجه إلى المواطن، فمثلاً المنشآت الخدمية مثل أبنية المحافظات والبلديات ومؤسسات الكهرباء والماء والنظافة، وإن كانت الدولة تجبي وفق رؤية مهمة الدولة من دون تخصيصها، لكنها تقدم خدماتها المميزة، وبأسعار متدنية فماذا يشكل الاعتداء على البلديات وموظفيها؟
وماذا يعني أن يتم الاعتداء على شبكات الكهرباء وسرقة محتوياتها؟
وماذا يفيد الاعتداء على شبكة المياه؟
وماذا يجني المواطن من إيقاف عجلة النظافة؟
الثقافة المطلوبة في هذا المجال تنطلق من أن هذه الخدمات ثم إنشاؤها على نفقة المواطن، وبمساعدة الدولة، لأن الدولة ليست ممولة، وإنما مساعدة في أحسن الأحوال، وقد تقدم بعض الثروات الطبيعية للدعم، وهذه الملكيات العامة استنزفت كل طاقات لمجتمع، وها هي ستستنزف الأكثر عند إعادة الإعمار والبناء، إضافة إلى أن آثار الحرب والدمار والتضخم ستجعل الأعباء أكثر، وربما تكون الحلول ممثلة بالخصخصة في بعض الخدمات فيخسر المواطن وتربح الشركات الخاصة، ويصبح حال الخدمات كما في الدول المجاورة والدول العربية بأيدي شركات خاصة.. هذه الثقافة عندما تشاع تتحول الملكية الخاصة إلى مسيطرة، وتتحول المؤسسات الخدمية إلى مؤسسات ذات هوية عامة، وذات مفهوم خاص.
– المنشآت العقارية تم الاعتداء على منشآت عقارية تابعة للدولة، وظن الذين اعتدوا أنهم ينالون الدولة وهيبتها، وفي حقيقة الأمر لم يعتد هؤلاء إلا على الملكيات الخاصة لهم إن كانوا من المغرر بهم، أو على ملكيات الناس إن كانوا من الأغراب والحاقدين، فقد تم إتلاف السندات والملكيات وبعد انتهاء الحرب سيجد كثيرون أن ملكياتهم تم بيعها مرات عديدة نتيجة فقدان السندات والتمليكات، وتحولت ملكياتهم الخاصة إلى طريقة للإثراء، وطريقة لتمويل الحرب عليهم لقتلهم وتخريب بلدهم.
– المنشآت العلمية، وربما كانت هذه المنشآت الأكثر خطورة، فقد تم تدمير المدارس والمعاهد والجامعات في المدن التي شهدت حرباً وفوضى، فتتحول جامعة إدلب إلى لا شيء، وجامعة درعا كذلك، وجامعة دير الزور والحسكة، ومعها كل المعاهد العلمية التابعة لوزارة التعليم العالي، والمعاهد الفنية التابعة للوزارات المختصة، وجامعة البعث في حمص، ومعهد المتفوقين في حمص وغيرها وعلاوة على الدمار والتخريب الذي طال هذه المعاهد والمدارس، يحتاج إلى مليارات الدولارات لإعادة الحياة إليها، فقد توقفت دفعتان على الأقل من هذه الجامعات عن التخرج والانخراط في الحياة العامة العلمية، وكذلك لا يقل عن ثماني دفعات تستقبلها هذه المنشآت العلمية من الأول الابتدائي وصولاً إلى نهاية المرحلة الجامعية، هذا علاوة عن شهادات الدراسات العليا التي تمنحها جامعتا حلب والبعث، فما تأثير هذه المنشآت العلمية على العملية السياسية، وماذا تحمل من أثر مباشر على السلطة والحكومة؟
هذه المنشآت هي الأخطر لأنها في النهاية خلَّفت أجيالاً من الطلبة بلا معاهد ولا مدارس ولا جامعات! وتركت أجيالاً من الأطفال بحاجة إلى برامج مساعدة تقوم عليها اليوم وزارة التربية مع اليونسكو! وفوق ذلك شوهت طلاب هذه المدارس:
– جسدياً
– علمياً
– نفسياً
وفي الوقت الذي يظن الفوضويون أنهم نالوا من الدولة، فإنما نالوا من أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وسيكتشفون لاحقاً أن نسبة الدمار المجتمعي العلمي تفوق أي ضرر مادي يمكن أن يتم بناؤه بجهود وأموال وأن المعاهد الإصلاحية والطبية التي لم نكن بحاجتها تصبح حاجة مرافقة للمعاهد العلمية والمدارس.

المنشآت الطبية
تتمتع سورية بشبكة من المنشآت الطبية المميزة، سواءاً كانت تابعة للدولة أم كانت خاصة، لكن المنشآت الطبية مهما كانت عائديتها أو ملكيتها هي منشآت عامة ذات نفع عام، وبسبب النظام الصحي المجاني في سورية، فإن كل منطقة تتمتع بوجود مشفى عام، وعدد من المستوصفات العامة والتخصصية، إضافة إلى وجود مستوصفات في كل قرية وحي، وتضاف إليها المنشآت الصحية الخيرية والتوعوية وهذه المنشآت الصحية استطاعت أن تقدم خدمات نوعية للمواطنين، وهي مجانية في أغلب الأحيان، وقد استطاعت الحرب أن تدمر هذه الشبكة في مناطق كثيرة من سورية، فالمستشفيات في أحسن الأحوال تعطل عملها، وفي أغلب الأحيان تم تدميرها واستهدافها، واستهداف كوادرها الطبية، وتحولت سورية من دولة تتمتع بالضمان الصحي من ون أي وجود لشركات إلى بلد هاجر خبراؤه وأطباؤه، وصار أبناؤه يقصدون بلداناً أخرى للاستشفاء، وعندما تقول المصادر: إن أكثر من 40% من المؤسسات الطبية خرجت من الخدمة، فهذا أمر بغاية الخطورة، لأن ما نستقبله تحول حكماً إلى المؤسسات التي لا تزال تعمل، ومع نهاية الحرب ستحتاج العاملة كذلك إلى إعادة تأهيل لأنها استهلكت في ظروف استثنائية، وفوق ذلك فإن الخدمات الطبية المجانية نزل مستواها، والأدوية، وخاصة الحيوية، صارت بعيداً من متناول محتاجيها.
كل هذا الدمار حصل للمنشآت العامة لأسباب عديدة يمكن تلافيها.
– عدم تثقيف الناس عموماً، وخاصة من الإعلام، بأن هذه المنشآت في مجتمع تكافلي أبوي مجاني هي ممتلكات عامة.
– التمييز بين الملكية العامة والسلطة، وهذا الأمر يقع على عاتق المسؤول والمواطن معاً، فهناك خلط بين المؤسسات ذات النفع العام، وبين من يتولى شؤونها، وخاصة عندما يمزج المسؤول بين شخص ومؤسسة إلى حد التماهي، فتصبح المؤسسات هدفاً!!
– الملكية العامة والملكية الإنسانية تتحول بعد زمن، فكثير منها كان خاصاً ثم أصبح إرثاً عاماً وإنسانياً.
– استثمار الإرث الثقافي والملكية العامة لما فيه خدمة الإنسان.
– غياب دور الإعلام، فهو يتناول الملكية العامة بشيء من التوجيه والوعظ والإرشاد، ما يدفع إلى الضدّية والمناكفة وردود الفعل العكسية والسلبية.
– التعامل بين المواطن والمسؤول على أن هذه الملكيات العامة شراكة متفق عليها بين الدولة والمواطن، وأن تعتمد التشاركية والتبادلية.
– احترام المواطن من القائمين على الملكيات العامة، وتعزيز التعاون ليتحول الفرد إلى حام للملكية العامة.
– إبراز الوجه الإنساني والحضاري للملكية العامة، وإبراز السمة الحضارية والسياحية، ومكان المواطن منها مهما كان انتماؤه، بما يناسب رؤاه وتطلعاته.
– إبعاد روح الاستغلال للمواطن عن هذه الملكيات، ولا ينفي أحد وجود مثل هذا الاستغلال في مراحل سابقة.

ختاماً
الحرب التي بدأت في سورية منذ سنوات، واتسمت بالشراسة المطلقة، استطاعت أن تدمِّر الكثير من الملكيات العامة، إضافة إلى دمار الملكيات الخاصة بمساحات واسعة للغاية، وربما أخذت الملكية العامة في سورية حيزاً كبيراً تستحقه من الاهتمام لأسباب تخص سورية.
– المؤسسات والملكيات العامة تقدم خدماتها المجانية للمواطنين.
– انتشار المؤسسات ذات النفع العام على مساحة سورية.
– تكفل الدولة بإنجاز وإدارة المؤسسات ذات النفع العام.
– غنى سورية الحضاري والإنساني والآثاري.
– اتساع رقعة الآثار السورية على كل منطقة.
– مرحلة البناء السوري استمرت خمسة عقود، ما جعل المنشآت ذات النفع العام كثيرة.
– استهداف هذه الملكيات العامة في الحرب لتدمير المجتمع السوري.
كل هذا وغيره يدفع إلى تعزيز مفهوم ثقافة المحافظة على الملكيات العامة، للحفاظ على ما تبقى، وما تبقى كثير، ولإعادة بناء ما استهدف، وهو كثير كذلك، والمرجو في المرحلة القادمة أن تتكاتف الوزارات من التربية إلى الأوقاف والثقافة والإعلام والتعليم العالي والعدل لخلق ثقافة جديدة تعزز المحافظة على الملكية العامة.. وأن تراجع الحكومة الكثير من الأنظمة والقوانين الناظمة لتحويل المواطن إلى شريك كامل الشراكة في الغنم والمغرم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن