ميراث «الترامبية» في عام
| عبد المنعم علي عيسى
أراد مايكل وولف أن يسدد الضربة القاضية لساكن البيت الأبيض وهو ما أعلنه عشية قيامه بنشر كتابه «نار وغضب» مطلع هذا الشهر الجاري، الأمر الذي جعله متراصفاً مع طابور الكتاب والمحللين الذين سبق لهم أن توقعوا خروج الرئيس الأميركي دونالد ترامب من السلطة، حتى إن بعضهم كان قد جزم بأنه لن يقضي رأس السنة إلا وهو يحمل لقب الرئيس السابق.
لم يستطع ركام الأحداث الهائل على امتداد عام، وظهر وكأنه دهرا على المراهنين، أن ينزل ترامب عن صهوة جواده، على الرغم من أن هذا الأخير لم يكن «فارساً» جيداً ولا استطاع أن يتعاطى مع حصانه كما يجب إبان قيامه بالقفز لتجاوز الحواجز التي تكاثرت في طريقه حتى غدت المسافات فيما بينها معدومة، والراجح أن ذاك الفشل إنما يعود إلى مناخات السياسة الحاكمة التي تطبع الدولة العميقة بطابعها والتي لم تعد تشجع على استنساخ «ووترغيت» أخرى، فقد سبق لتلك المناخات أن اختبرت قبل عقدين عندما هزت فضيحة مونيكا لوينسكي عهد الرئيس السابق بيل كلينتون لكنها لم تؤد بهذا الأخير إلى ما انتهى إليه سلفه ريتشارد نيكسون في العام 1974، فالحسابات بدت في التسعينيات، وكذا اليوم، تأخذ بعين الاعتبار مسائل أخرى من نوع «هيبة الدولة الأعظم» والصورة التي ستصبح عليها الولايات المتحدة إذا ما استطاعت أدنى ريح أن تهز، بل وتسقط، رمز عنفوانها وعزتها، وفي حينها يصبح السؤال الذي يرد عشية وصول أي رئيس إلى سدة السلطة هو: كم سيبقى؟ ثم تصبح مقارنة الرؤساء بعضهم ببعض تستند إلى معيار واحد هو المدة التي استطاع فيها هذا الرئيس أو ذاك الصمود كسيد للبيت الأبيض.
إلا أن ذلك لا يعني أن ترامب كان يقف مكتوف اليدين فيما رياح الأزمات تعصف بـ«بيته»، وهو بالتأكيد كان لزاماً عليه الحركة الأمر الذي فعله بحيوية فائقة وإن كانت تلك الحركة غالباً ما تؤدي إلى «خلط عباس بدباس»، فهو رد على خروج «روسيا غيت» إلى العلن بأن قرر تحويل «جاستا» السعودي إلى الديار القطرية، وعندما فعل، زار الرياض في أيار الماضي وعاد منها بنصف تريليون من الدولارات، وعبرها استطاع أن يهدئ من روع البيلدبرغ، أي «مجمع الصناعات الحربية» الذي كان يخشى كسادا في منتوجاته يمكن له أن يؤثر سلباً على الكم والنوع فيها طالما أن المال يمثل الأساس الذي تقوم عليه عمليات التطوير واستنباط «أصناف» جديدة، وكذا استطاع أن يغلق أفواه مئات الآلاف في الشارع الأميركي ممن يبحثون عن وظائف أو عمل، ثم راح يستعرض مهاراته في هذا السياق ليثبت أنه قادر على لعب دور «المنشار» الذي يقضم الخشب نزولاً وصعوداً، فرياح «جاستا» عندما قاربت الحدود القطرية سارعت الدوحة إلى تسديد «الذمم» المترتبة عليها ما أدى إلى رفد خزائنه من جديد بـ60 مليار دولار أخرى، حتى إذا تحصل له ذلك، جرى الإعلان في واشنطن عن أن مواقع إماراتية كانت وراء قرصنة موقع الرئاسة القطري ومن ثم قامت، تلك المواقع، بتسريب البيان الذي استخدمته دول الحصار ذريعة لقطع العلاقات مع قطر، على الرغم من أن الإمارات لم تفعل ما فعلته إلا بضوء أخضر أميركي بل وأزرق وزيتي أيضاً، وعندما «صادفته» الأزمة الكورية التي ورثها عن أسلافه أراد أن يثبت أن أميركا هي الأقوى فرد على الزعيم الكوري الديمقراطي بالقول: إن لديه زراً نووياً أقوى وأكبر من ذاك الذي قال عنه هذا الأخير إنه موجود على مكتبه، لكن عندما صادفته الأزمة مع الباكستان، قال: إن صبره وصبر بلاده، قد نفد تجاه التذبذب الباكستاني، وهو قول يحتوي بين طياته إعلاناً بأن أميركا التي كانت تتفهم دوافع الملك حسين في دخوله حرب حزيران ضد إسرائيل خوفاً من سقوط عرشه عبر المد الناصري، ومن ثم عادت وتفهمت أيضاً دوافعه للوقوف إلى جانب صدام حسين عندما قام هذا الأخير بغزو الكويت العام 1991، أميركا هذه لم تعد موجودة بل لقد حل محلها أميركا النقيضة منها، لكن ربما شعر أواخر العام الماضي خشية في إمكان تحول ميزان القوى الداخلية ضده، فانبرى إلى الإعلان عن عزمه نقل سفارة بلاده إلى القدس ليثبت بذلك أنه أكثر «إيماناً» من الصهيومسيحيين الذين يقولون إن ظهور المسيح هو أمر مرهون بسيطرة شعب إسرائيل على القدس.
ما يمكن لحظه إزاء نهج ترامب الذي اعتمده في عامه الأول، هو أن كل السياسات التي اتبعها من شأنها أن تمثل طعنة في العظمة والهيبة الأميركية، صحيح أن الإمبراطوريات والدول الرأسمالية الكبرى تعتمد في تطوير قوتها ومكانتها بالدرجة الأولى على نهب ثروات الشعوب الضعيفة، إلا أن طريقة النهب المتبعة في سياق الأزمة الخليجية القطرية كانت مهينة للذات الأميركية قبل أي أحد آخر، فقد بدت القوة الأميركية شبيهة النار التي كلما أعطيت قالت ألا من مزيد، والأمر نفسه تكرر في طريقة التعاطي مع الأزمة الكورية وفيها وضع ترامب الثقلين الأميركي والكوري في ميزان واحد، فأضحت بيونغ يانغ كأنها نداً لواشنطن، وتلك وحدها جريمة حضارية، صحيح أن الوصول إلى السلاح النووي وأدوات إيصاله إلى أهدافه هو أمر من شأنه أن يلغي التفوق في مجال الأسلحة التقليدية مهما كان كمها ونوعها، إلا أن الصحيح أيضاً هو أن القاعدة العلمية والحضارية والجغرافية والتاريخية لكلا السلاحين لا شك أن لديها قولاً آخر، وهي متفاوتة بين الإثنين بدرجة تجعل من السلاح النووي الكوري عبئا على البلاد، في حين أنه قوة هائلة للولايات المتحدة، وفي خلفية الأزمة الوليدة مع الباكستان أعطى ترامب عبر سلوكه ملمحاً يشي أن ثمة خشية خفية تعتري جسد الإمبراطورية الأميركية فتشعرها بأن شمسها أذنت بالمغيب دونما حاجة للاستئذان.
هذا النهج يطرح إشكالية كبرى: فما هربت منه «الدولة الأميركية العميقة»، وجدت ترامب يأخذها إليه، وكل ما فعله هذا الأخير هو أنه سلك طرقات أو زواريب بدلاً من طريق عريض يمكن أن تفضي إليه عملية تنحية ترامب.