ثقافة وفن

مدارات في الثقافة والتاريخ والاجتماع والسياسة … كتاب يضع تحت مجهر التحليل والنقد عدداً من الدراسات الموثقة في تاريخ المنطقة

| سوسن صيداوي

غاية من الدراسات والأفكار والتحليلات. الرسالة والغاية من العمل الفكري بما يتطلبه من بحث في الدراسات والمطالعات، والغوص في الأفكار والتحليلات، وصول الباحث في النهاية إلى نتيجة تعزز رسالته الهادفة للإسهام في تشكيل وعي معرفي يؤمن بالدور المحوري للثقافة الوطنية المتجذرة من جهة، وبالتفاعل الثقافي الإيجابي المنتج والمؤثر من جهة أخرى. بالعبارة السابقة أكد د. خلف محمد الجراد في مقدمة كتابه (مدارات في الثقافة والتاريخ والاجتماع والسياسة)، في 287 صفحة من القطع الكبير، والصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، لافتاً إلى أن الكتاب يركز في محاوره الرئيسة على المثاقفة والتفاعل الثقافي الحضاري المثمر، كما أنه يضع تحت مجهر التحليل والنقد في الوقت نفسه عدداً من المفهومات والمصطلحات المعروفة والمتداولة في هذا الحقل المعرفي الواسع.
تجدر الإشارة إلى أن الكتاب يتضمن عدداً من الدراسات المهمة والموثقة في تاريخ المنطقة العربية، مثل قصة السطو اليهودي- الصهيوني على اسم وتاريخ «أورشليم» العربي اليبوسي، والأدوار التدميرية الخطرة التي قامت بها «الماسونية» و«يهود الدونمة» و«الطورانية» الشوفينية وما يسمى «العثمانية الجديدة» في إشعال الفتن والصراعات بين شعوب المنطقة، بدلاً من تعايشها وتضامنها وتفاعلها الحضاري البنّاء. مستنداً المؤلف في بحثه إلى «منهج علم الاجتماع الثقافي»، مقدماً دراسة وصفية-تحليلية موسعة-قائمة على أرقام دقيقة وإحصاءات مقارنة موثقة، لتغيرات الشخصية الصينية التقليدية في ضوء التحولات الاجتماعية الجارية هناك، وتأثيرات العولمة بأبعادها العديدة، ولاسيما في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيمية في المجتمع الصيني المعاصر.

المثاقفة أو التفاعل الثقافي

في هذا الجانب أشار الباحث إلى أنه متفق تماما مع القول بأننا نعيش كأمة، أزمة حضارية بالمعنى الشامل والواسع لهذه الكلمة، وأحد أسس هذه الأزمة يتمثل في التحدي الأكبر الذي يواجه الإنسان العربي، حيث يتمكن بأقل خسائر ممكنة من(عبور الهوة العميقة بين الواقع العربي الحالي ومؤشرات العصر القادم، ولكن من دون الاستسلام إلى الشعارات الزائفة التي تنال من أصالته وتميّزه الحضاري). ويضيف د. خلف «إذا كان منطق التفاعل أو الحوار الحضاري في الماضي يسمح باستمرارية الوجود مع الإبقاء على التمايز، كما كان يسمح بأخذ المقبول وطرح المرفوض، فهل ما يجري حالياً من تطبيق إستراتيجيات الاستيعاب والتذويب والإلغاء إزاء الحضارات والثقافات غير الغربية يصب في إطار منطق (التفاعل الثقافي والحضاري) الذي يجري الحديث عنه ليل نهار؟ والجواب نجده في كتابات كثيرة صاغتها أقلام عشرات المفكرين والباحثين العرب».

كيف سطوا على اسم(أورشليم)؟
خلص الباحث في هذا الفصل من الكتاب إلى النتيجة التالية حيث يقول «إن الروايات المشار إليها، وهي مستندة إلى النص التوراتي نفسه، تؤكد بصورة قاطعة أن مدينة أورشليم كانت منذ تأسيسها، أي قبل خمسة آلاف عام مدينة عربية كنعانية، وقد بقيت بيد سكانها اليبوسيين أكثر من ألفي عام قبل عهد موسى، وحتى بعد داود بقي سكانها العرب اليبوسيون في أرضهم وفي بيتهم، وعاش اليهود في فترة وجودهم أقلية بينهم، إلى أن تم سبيهم إلى بابل في عهد الكلدانيين، فعادت أورشليم لتكون مدينة عربية صافية، خالية من الأغراب، كما أن اليهود الذين رجعوا إلى أورشليم في عهد الأخمينيين كانوا أقلية ضئيلة، في المدينة كما تقدم، إلى أن أخرجوا منها نهائياً في عهد الرومان، فرجعت المدينة كما كانت قبل مجيء هذه الجماعة الغربية إليها». مضيفاً د. خلف: بأنه يتبين مما تقدم أن تسمية (أورشليم) التي يحاول الصهاينة إيهام العالم بأنها من الأسماء العبرانية، هي في الحقيقة كلمة كنعانية عربية أصيلة وردت بهذا الاسم في النصوص التي وجدت في المنطقة (وخصوصاً في مصر والساحل السوري) قبل ظهور العبرانيين بعدة قرون، ثم بعد أن ظهر اليهود وتكوّنت اللهجة العبرية المقتبسة عن الآرامية في وقت لاحق، صار اليهود يسمونها بلغتهم (يروشلايم). متابعاً بأن الزعم بأن اسم (أورشليم) عبري الأصل، هي دعوى باطلة لا تستند إلى أي مصدر تاريخي، حيث تعترف التوراة بأنه ليس لليهود والعبرانيين وبني إسرائيل أي صلة بأورشليم وتاريخها القديم، لا من حيث التسمية ولا من حيث النشأة القومية، والتركيبة الإثنية والاجتماعية والدينية والروحية».
تركيا بين الطورانية والعثمانية الجديدة

في هذا الجانب أيد الباحث تحليل محمد أركون بشأن العلمانية التركية، والذي مفاده «أن هذه التجربة قد ذهبت بعيداً في جرأتها. لكنها لم تكن في الواقع إلا(كاريكاتيراً) للعلمنة، رافقته بعض التطرفات كما حدث ذلك في فرنسا سابقاً. لكن الشعب التركي لم يستجب لهذه التجربة التي دوخته، ما يفسر العودة الدينية العنيفة بدءاً من عام1940». ذاكراً الباحث في مكان آخر ما خلص إليه الباحثون في الطورانية بأنها(حركة شوفينية عنصرية فاشية، قامت بهدف بناء مجتمع جديد على أساس التفوق العنصري، والعصبية القومية للأتراك. ونظراً لأن العنصر التركي نفسه كان متخلفاً حضارياً عن أغلبية القوميات التي تعيش فوق الأراضي العثمانية، فلا بد لهذه الحركة من ممارسة العنف والتدمير لتحقيق غاياتها، ومن هنا مصدر فاشيتها، والدافع لارتكابها المجازر ضد القوميات الأخرى).

الشخصية الصينية التقليدية
أشار د. خلف الجراد إلى أن مفهوم الشخصية القومية الصينية التقليدية يرتكز على المنهج التاريخي-الجدلي التكاملي لدراسة الشخصية الإنسانية، استناداً إلى تحليل سماتها ومكوناتها الأساسية الجمعية شبه المتوارثة والثابتة، والتغيرات التي لحقت بها وبالتكوين الاقتصادي-الاجتماعي من ناحية، وبالتاريخ الاجتماعي والثقافي والحضاري للشعب الصيني الممتد إلى آلاف السنين من ناحية أخرى. متابعاً: «غير أن الحديث عن الشخصية الصينية التقليدية لا ينبغي أن يتجاهل وجود أنماط فرعية لهذه الشخصية داخل المجتمع الصيني المكون من ست وخمسين قومية وعشرات اللغات واللهجات والانتماءات العرقية والدينية والفلسفية والفكرية، حيث تتميز كل مجموعة منها بخصائص تاريخية واجتماعية واقتصادية ونفسية وقيمية معينة، رغم وجود سمات مشتركة بينها، تشكل في مجملها الملامح العامة للشخصية الصينية التقليدية».

علوم وتقانة الإبادة
في مقدمة هذا الجانب من الكتاب تحدث المؤلف عن استخدام قوى الهيمنة العالمية في مجالات وقدرات وأدوات عديدة لضمان سيطرتها الكونية الشاملة، مشيراً إلى تنوع الوسائل وتعددها من حيث العمل الحثيث على عسكرة المعرفة لأغراض التفوق والسيطرة، إضافة إلى اختراق المعطيات السرية الخاصة بالدول والمجتمعات الأخرى. هذا ما يلاحظه الكل من حيث الأسلوب الأميركي والتوجه المتعاظم نحو عسكرة الإعلام والقضاء والطاقة والأقمار الصناعية، وكذلك التقانات ذات الأجسام المتناهية في الصغر، والهندسة الوراثية، والقدرة والتدخل في تغيير الظواهر الجوية، وافتعال الكوارث الطبيعية، وتوظيف المادة المضادة، كل ما سبق من أجل تحقيق تفوق عالمي مطلق على مستوى القدرة التدميرية للأسلحة التقليدية أو غير التقليدية، وبالطبع هي إستراتيجية لا مثيل لها، لا في الغرب ولا في الشرق، ولا في التاريخ المعاصر ولا في التاريخ الغابر. مستشهداً كمثال بما حققته الحربان اللتان خاضتهما الولايات المتحدة الأميركية على العراق في غضون عقد من الزمن1991-2003 لا من الكشف عن التقدم الرهيب الذي حققته أميركا في هذا الصدد فحسب، بل كذلك من اختبار أدوات الدمار والإبادة ذات التقنيات العالية جداً على أرض الواقع، كضرورة ممنهجة لتطوير أدوات ووسائل القتل والتدمير والاختراق والتجسس المتجددة دوماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن