قضايا وآراء

فيينا وعفرين بين «غصن الزيتون» و«صيد الثعالب»

| عبد المنعم علي عيسى

باهتاً كان مؤتمر فيينا المنعقد يومي الخميس والجمعة الماضيين، وهو أمر لا يخرج عن الطبيعي، فكل شيء في المحيط باهت، أو هو يؤكد أن الساحة الآن ليست لردهات التفاوض، لكن ما العمل؟ فواجب الدبلوماسية ألا تتوقف عجلاتها عن الدوران مهما تكن طرقاتها موحلة، وذاك، وحده حتى دون أن يفضي إلى نتائج، أمر إيجابي فالبديل هو أن تخلى الساحات لصليل السلاح وممارسة العنف في درجاته القصوى.
لم تكن هناك من سمة بارزة لمؤتمر فيينا أكثر من أنه اختص بالحديث عن مؤتمر آخر مقبل، حتى بدا كأنه عقد من أجل ذاك الغرض فحسب، ولذا فإن المؤتمرين متداخلان بدرجة كبيرة لكن مع وجود ضبابية تغطي جزءاً كبيراً من ذلك التداخل، فإلى الآن لا تبدو صورة سوتشي واضحة وربما كان المعلن، أي من الروس، لا يمثل كل المضمر، ولذا فإننا نشتم في كثير من السلوكيات ارتياب كل من دمشق وطهران في آن واحد، تجاه المرامي الروسية الحقيقية من عقد ذلك المؤتمر، ونحن إذ نقف اليوم، أي ساعة كتابة هذا المقال، على بعد ساعات من توافد الوفود على المنتجع الروسي، لا يزال هناك تردد أميركي في الحضور، ومن الجائز أيضاً توصيف موقف «الهيئة العليا للمفاوضات» بالتوصيف نفسه، على الرغم من أن هذي الأخيرة كانت قد أعلنت يوم الأحد الماضي عن مقاطعة المؤتمر، فالغياب هنا يحمل هموما تفوق الحضور، وهو في الآن ذاته يحاكي الانتحار السياسي ويمثل مؤشراً بالغ الدلالة على ضيق الخيارات، وكذا على ارتباك غرف صناعة القرار التي لم تدخر جهدا في حض «حلفائها» على مقاطعة المؤتمر، وهو أمر يؤكد أن هذه الأخيرة لا تزال ترى نفسها ثقلاً لا بد أن يعتد بمواقفه، أو أنها في موقع «الحليف» الذي لا بد وأن تؤخذ مصالحه بالحسبان.
الأمر اللافت في سياقات فيينا هو تلك الوثيقة التي قدمتها واشنطن ونشرتها قناة «الميادين» على صفحتها صبيحة يوم الجمعة الماضي، وهي إذ تعبر عن وجود رؤى وقناعات أميركية تقول إن الظروف قد تكون مناسبة لاستعادة نموذج «الانتداب» أو الوصاية على نحو ما كان الأمر عليه مطلع القرن الماضي، إلا أنها لا تملك أي أهمية تذكر، لكن من الجائز اعتبارها على أنها تشير بشكل مؤكد إلى انقلاب واشنطن على تفاهمات الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين في أيلول 2016 التي مثلت الحدود الدنيا من التوافق على الدوام، وبمعنى آخر فإن من شأن تجاوز تلك الحدود هبوطا أن يعني الرجوع إلى ما قبل عاصفة السوخوي في أيلول 2015، فعلى الرغم من إصرار الطرفين على إبقاء كل القنوات مفتوحة بينهما، إلا أن التناقضات وصلت إلى تفاصيل وجزئيات دقيقة وعديدة، ما يشي بإمكان تكامل مشهد التناقض العام، وربما ظهر ذلك بوضوح إبان جلسة مجلس الأمن التي دعت إليها فرنسا يوم 21 من الشهر الجاري لمناقشة التطورات الحاصلة في عفرين، وفيها بدا أن حجم التناقض كان كفيلا للتحدث في كل شيء إلا في تطورات الوضع في عفرين، وربما كان ذاك هو السبب في «الانزياح» الأميركي الجزئي باتجاه أنقرة، فلم يكد ينقضي الأسبوع الأول لعملية «غصن الزيتون» حتى برز موقفان لافتان أولهما أميركي معلن يتمثل بوعد أميركي بعدم إمداد «وحدات حماية الشعب» الكردية بالأسلحة بعد اليوم، وثانيهما أميركي مستتر تمثل في إعلان قيادة حلف الناتو أن «من حق تركيا حماية حدودها لكن بشكل مدروس»، وفي هذا السياق يمكن القول إن السمة الأبرز للتعاطي الأميركي مع أزمة عفرين هي الارتباك والتردد، ولم يسبق أن كانت الدبلوماسية الأميركية في وضع حرج منذ بدء الأزمة السورية قبل سبع سنين كما هي عليه اليوم، ففي الوقت الذي كان البيت الأبيض يعلن فيه وجوب أن تكون العملية العسكرية التركية محدودة الزمان والمكان كان البنتاغون الأميركي يحذر الوحدات الكردية من التوجه إلى عفرين لمساندة المدافعين عنها، ويحذر هذي الأخيرة أيضاً من استخدام الأسلحة الأميركية في حربها مع الأتراك لأن تلك الأسلحة «مقدمة أصلاً لمحاربة داعش» ولا يجوز استخدامها في أي صراع آخر، وهو ما يفسر غزارة البيانات الأميركية الصادرة عن ثالوث: البيت الأبيض، وزارة الخارجية، البنتاغون، فيما يخص تلك الأزمة، وبدا ذلك الثالوث وكأنه يتواصل مع نظائره التركية عبر تقنية «السكايب» بسبب السرعة الحاصلة في ردود أحدهما على طروحات أو تساؤلات الآخر، وما تشير إليه تلك البيانات هو أن واشنطن كانت تتحدث بخطابين أحدهما للأكراد والآخر للأتراك وهو ما ظهر في خلال الاتصال الهاتفي الجاري ما بين الرئيس التركي ونظيره الأميركي يوم الخميس الماضي فقد كان لافتاً اعتراض أنقرة على بيان البيت الأبيض الخاص الذي عرض لتلك المكالمة ومن خلاله أكدت الدبلوماسية التركية أن رجب طيب أردوغان طلب من دونالد ترامب سحب القوات الأميركية المرابضة في منبج، على حين خلا بيان البيت الأبيض من أي إشارة إلى ذلك الطلب، والسؤال الذي يؤكد ازدواجية الخطاب الأميركي هو لماذا أغفل البيان الإشارة إلى طلب أردوغان على الرغم من أنه، فيما إذا كان قد حصل وهو الأرجح لأن واشنطن لم تنف الأمر، كان يجب أن يحتل الجانب الأهم في ذاك البيان قياسا إلى أنه يمثل تحولا كبيراً في مسار العملية العسكرية التركية وربما في مسار الأزمة السورية برمتها، فأنقرة ترى من وجهة نظرها أن «غصن الزيتون» لكي تحقق أهدافها لا بد لها أن تتسع لتشمل منبج ومحيطها بحيث يتم ترحيل القوات الكردية إلى شرق نهر الفرات، وهنا يكمن مربط الفرس فالمدينة تحوي حامية أميركية ومن المرجح أن واشنطن سوف تسحب جنودها إلا أن ذلك لا يمكن أن يتم دونما التوصل إلى توافق معين له أثمانه التي قد لا تروق لأنقرة.
انتظرت «وحدات حماية الشعب» يومين اثنين لكي تطلق على عملية تصديها للغزو التركي اسم «صيد الثعالب» وهو مسمى يعترف ضمنا بصعوبة العملية، لكنه يحمل بين طياته إشارة إلى أنها باتت خياراً وحيداً إذ لا بديل عن قنص الثعالب والقائم بالفعل، أي صائد الثعالب، يدرك ذلك جيداً وهو مصر على إتمام مهمته مهما تكن أثمانها أو خسائرها، وهذا التوصيف موفق في رمزيته، إلا أنه توصيف محض نظري ولا يقارب الواقع، إذ سرعان ما كشفت حالات الاستغاثة التي أطلقتها تلك الوحدات عن حجم الألم والإحساس بخيبة الأمل في مواجهة ما يجري، تماماً كما يفعل العاشقون الطريون الذين يقومون بإطلاق شتى الاتهامات عند أول هفوة تمر بها علاقتهم، لنراهم يصفون الروس بـ«الخونة» في أعقاب سحب هؤلاء لجنودهم من عفرين، والسؤال هل سيكون لدى تلك الوحدات الجرأة في إطلاق التسمية ذاتها على الأميركيين عندما سيغادرون منبج تاركين من فيها لمصيرهم؟ ثم نراهم يدعون الحكومة السورية إلى ممارسة دورها السيادي والقيام بمواجهة الغزو التركي، وذاك هو مطلب حق، لكن ما يراد به هو أكثر من الباطل، إذ ماذا فعل هؤلاء في سياق «دعمهم» لتلك الحكومة؟ ألم يجهدوا أنفسهم، شأن الكثيرين في محاولات إضعافها حد الموت إن أمكن؟ ألم يقوموا ببناء تحالفات مع أطراف خارجية لا تخفي عداءها لدمشق ولا نياتها ضدها؟ ألم يعلن العديدون ممن هم في مواقع القرار بأن الجيش السوري سوف يدفن هناك إذا ما فكر الاقتراب من مواقع سيطرة تلك الوحدات؟ هذا الكلام ليس للتشفي فالجرح واحد، والدعوات الأخيرة حول استعداد الأكراد للانضواء من جديد تحت راية العلم السوري هي دعوات إيجابية بل مقبولة في سياق «عودة الولد الضال» شريطة أن يعلن هذا الأخير عن توبته، فالخطأ جسيم وهو يهدد الكيان السوري كما لم يتهدد هذا الأخير على مدى سنوات الحرب السبع، فأن تستجيب تلك الوحدات لطلب أميركي يقضي بانخراطها في بناء جيش «لحماية الحدود» فذاك أمر يمثل طعنة قاتلة في صميم الجسد السوري علاوة على أنه أمر لا تحتمله المعادلات القائمة في المنطقة، وهو يشير إلى حال قصوى من التهور وكأنها لا تدرك المخاطر التي يمكن أن تترتب على فعل كهذا.
وفي سياق آخر كانت أولى تداعيات عملية «غصن الزيتون» على الداخل السوري تتمثل في الموقف الذي ذهبت إليه جماعة الإخوان المسلمين تجاهها، وهي لم تكتف بتأييدها فحسب، وإنما قامت بالتهليل لها أيضاً، ولم لا؟ وقد طال انتظار ذلك الحدث لما يقرب من سبع سنوات، فالجماعة تنظر إلى موطئ قدم تركية في الشمال السوري على أنه أمر يضاعف من ثقلها ويمثل مصدر قوة لها دون غيرها فهي «المحظية» الأولى لأنقرة، ولأجل عينيها دمرت مدن بأكملها وأريقت دماء حتى صرخت الأرض «كفى»، فالطرح التركي الذي شكل نقطة افتراق بين دمشق وأنقرة في 2011 كان يقوم على وجوب مشاركة الجماعة بالسلطة كرأس حربة تركي وهو يمثل الخطوة ما قبل الأخيرة للقفز والاستيلاء عليها، ولو قدر لذلك المشروع أن يتحقق، لما كانت المنطقة على ما هي عليه الآن، ولما سقط حكم الإخوان في تونس ومصر، بل كان لزاماً أن يشهد العراق متغيرات جذرية تتناسب مع اكتساح التسونامي الإخواني للمنطقة برمتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن