تفاهم ودي
| تيري ميسان
مر الإعلان عن إعادة إحياء معاهدة «لانكستر هاوس» مرور الكرام في الغرب، تلك المعاهدة الموقعة بين لندن وباريس عام 2010، والتي أرست دعائم وفاق ودي بين الإمبراطوريتين السابقتين أعمق بكثير من وفاق عام 1904، ومما لحظته في بنودها، المساهمة في بناء عالم ثنائي القطب يفضي حتما إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وعودة التوترات بين باريس وبرلين.
قرر رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، عقب توقيع المعاهدة عام 2010، الانضمام إلى قوات الإسقاط في كل من بريطانيا وفرنسا، وينبغي أن نفهم القوات الاستعمارية القديمة من خلال «قوة الإسقاط» هذه.
لقد رافقت معاهدة «لانكستر هاوس» عدة ملاحق، شملت واحدة منها عملية تمرين مشتركة ضخمة جدا، أطلق عليها اسم «ميسترال الجنوب»، وتبين بعد بضعة أشهر، كيف تحولت عملية التمرين المشتركة إلى تحرك عسكري فعلي للوحدات القتالية نفسها، وفي التاريخ المحدد، لشن حرب حقيقية على ليبيا، تحت اسم عملية «هارماتان»، أو «ميسترال الجنوب».
في ذلك الوقت، كانت المبادرة البريطانية الفرنسية بقيادة واشنطن في إطار إستراتيجية «القيادة من الخلف»، وبناء على ذلك، كانت قوات البلدين تتصدر الواجهة، على حين كانت واشنطن تلقنهم المهمات العسكرية المحددة من وراء الكواليس.
في الواقع، تهدف معاهدة «لانكستر هاوس» إلى خلق إطار قانوني للتدخلات، مثل التدخل الذي جرى لاحقا في ليبيا، ودمج القوات، توخيا لتوفير الإنفاق ورفع مستوى الكفاءة، وبذلك ينطوي هذا الخيار على ثورة حقيقية في مستوى العلاقات بينهما، أي: سياسة خارجية مشتركة.
بيد أن الطفرة الناجمة عن الاتفاقية والحملة العسكرية على ليبيا، سرعان ما أخذت تتبدد تدريجيا مع تنامي قلق الرأي العام، والدبلوماسيين البريطانيين في أعقاب تصاعد وتيرة المقاومة العراقية للاحتلال الأنغلوسكسوني.
لذلك كانت بريطانيا تفكر منذ عام 2004، بالتحضير «لثورة عربية» على غرار الثورة العربية الكبرى عام 1915، تحت مسمى «الربيع العربي»، مع رفضها المطلق لفكرة قصف دمشق.
وفي الوقت الحالي تعكف لندن على إعادة تنظيم قوتها الدفاعية عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي، ورفض الرئيس الأميركي دونالد ترامب مواصلة التلاعب بالإرهاب الإسلامي معها، فضلا عن الوجود الروسي القوي في سورية.
وتأسيسا على هذه المعطيات، وقعت لندن أولا اتفاقات ثنائية مع كل من الدانمرك وهولندا والنرويج ودول البلطيق، فرضت في بنودها إطارا للعمليات المشتركة المحتملة في المستقبل، ثم بدأت بإعادة تنظيم الشبكات الجهادية في الشرق الأوسط حول كل من تركيا وقطر، كما سهّلت التقارب العسكري بين تركيا والصومال والسودان وتشاد.
وأخيراً، وبناء على معاهدة «لانكستر هاوس»، أرست لندن دعائم «تفاهم ودي» كبير مع فرنسا، وإذا افترضنا جدلاً أن هذه المعاهدة التي تفاوض عليها كاميرون وساركوزي في ذلك الحين، قد شكلت فرصة سانحة لشن الحرب على ليبيا، فإن إعادة إحيائها من جديد من رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هي ثمرة اختيار متعمد على المدى الطويل، وإن هذه المرحلة الجديدة من تفعيل المعاهدة، قد تفاوض عليها جان بيير جويت، مستشار الرئيس الفرنسي ماكرون، سفير فرنسا الجديد في لندن.
لندن وباريس عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي، تملكان السلاح النووي على حد سواء، وتتمتعان معا بميزانية عسكرية أعلى بنسبة 30 بالمئة من ميزانية روسيا، ولكنها أقل من ميزانية الولايات المتحدة والصين.
وبترجيحها لخيار التحالف العسكري مع لندن، تكون باريس قد ابتعدت كثيراً عن برلين، التي تعيد تسليح جيشها، أملا في أن تتولى قيادة الجيوش الأوروبية الأخرى، وإذا استمرت باريس في هذا المسار وعلى هذا المنوال، فستجد نفسها مضطرة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي تتولى برلين قيادته فعليا.
تنبئ التصريحات المشتركة لماكرون وتيريزا ماي، المتعلقة بإنشاء وحدة عسكرية لمكافحة «الأكاذيب» الروسية، على حد زعمهما، بالعودة فعليا إلى عالم ثنائي القطب، وإلى الرقابة على الأخبار الواردة من روسيا، كما أن انفكاك عرا الزواج الفرنسي الألماني، لمصلحة تفاهم فرنسي بريطاني، ينبئ هو أيضاً بعودة التوترات بين باريس وبرلين لاحقا.