صراع الجبابرة
| د. نبيل طعمة
يتسابقون على تصنيع الغوغاء لعوالمنا، تفكروا معي ما حاجة القوى العظمى لاقتسام عالم الجنوب؟ ما ماهية الحجج الواهية التي تستخدمها ضد دولنا؟ يقومون بمراقبة نظم التطور ومنع التقدم، من أجل إبقاء التخلف وتعميمه، قلب أنظمة مستقرة يعتبرونها لا ديمقراطية، طرح أفكار عائمة وخلابة عن الحرية، منع امتلاك أسلحة إستراتيجية وأي تكنولوجيا علمية، ويدعمون بالسبل كافة انقضاض الذكاء الاجتماعي الفردي المرتكز على الروحي الغيبي على الذكاء العلمي العلماني الديمقراطي.
الخمس الكبار زائد واحد ضمن مجموعة السبع زائد واحد، تتلاعب في دول مجموعها مئةٌ وخمسٌ وثمانون دولة، جميعها بلا استثناء يجب أن تكون تابعة لإحدى هذه الدول، كيف بنا حتى اللحظة لا نصل إلى نتائج؟ هل نستطيع؟ أجل نقدر بعد تطوير فكرنا وأفكارنا وإحساسنا بقيمة وقوة الوقت، والقدرة أن تبدأ من حيث أنت.
صحيح أنَّ العالم يحاول الهروب من بين أصابع الفاعلين، دبٌّ روسي وتنينٌ صيني، برودة إنكليزية عنكبوتية، إتيكيت وأناقة فرنسية برَّاقة مخادعة، وصولاً إلى العقرب الأمريكي الخطر جداً، الجميع بين فاعل ومنفعل، يحولون العوالم إلى مفعول به، ولكل منه أسراره وتفسيراته وقناعاته من مبدأ ثلاثية الحياة التي تظهر من ثنائية أي معادلة، ومعها نرى الفاعل يؤخر الفعل، أو يحوله إلى مفعول به بهدوء أو بسرعة، يفرد هنا الحلول، ويراكم هناك المشكلات، ينادي بالاستحقاقات على ركام الدمار والجماجم نتاج مشاريع الفوضى الهدامة التي مثلت أبشع صور العقوبات التي يديرها العالم الأول بين دول العالم الثالث بامتياز، وهي الضريبة الباهظة التي تُفرض على كل دولة تفكر بالاستقلال النهائي الذي يتجلى في إدارتها بحنكة، وقبضتها على زمام أمورها، إنه الحال الوحيد الذي يجسد الخطر الحقيقي للشعوب والأمم الموجودة في عالم الجنوب.
ناقشوا معي هذه المسألة، إنَّ أيّ دولة تصل بأمورها إلى أن تكون على ما يرام اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وعسكرياً، يجب أن تتحضَّر إلى زلازل، تصيب كل محور من محاورها، أو تؤخذ بانقلاب شامل لطاولتها، وما تحويه مما ينجز ليس تصدعات وانزلاقات، ومن ثمَّ انهيارات؛ بل تدعو الجميع للوقوف بإذهال من هول ما يجري واستمراره، لأنه يجري من دون توقف نتاج الارتدادات المتلاحقة التي لا تصيب إلا عالم الجنوب، هل مسموح له أن يتنفَّس؟ طبعاً.. ولكن ليس لدرجة الصعداء، ويحق لشعوبه فقط أن تستأنف حياتها، ومطالبة بأن تمتلك العزوم الفائقة لتعويض ما فات مما تهدم، وما خسرته، وما تضررت منه في مالها وأجساد أبنائها وفكرها وأرضها؛ هل تستطيع هذه الشعوب كسر حواجز الخوف، وأن تعلي صوتها ضد التخلف المطالبة دائماً بإبقائه، وأن عليها التمتع فيه؟
لا حرية مدنية ولا تطوير في الأرياف، مجموعة نقائض تجمع مجتمعاً على جغرافيا مهمة، بيوت الصفيح إلى جانب القصور الفارهة، الكل يرى الكل، النوافذ والشرفات ومن على السطوح، المعجزة متحققة لحظة أن يستيقظ الجميع، فهم يعلمون أنهم مازالوا أحياء، وأنهم يحلمون في صحوهم بأنَّ أجيالهم الناهضة قادرة على بناء أشكال جديدة من الحياة خالية من أيّ تعصُّب سياسي أو طائفي مذهبي ديني، أو أن تذهب بجميعهم إلى الهاوية.
هل يسمح صراع الجبابرة بأن تبني الشعوب روابط إيجابية فيما بينها؟ أو أن تقيم علاقات بناءة، وأن تسعى لتحقيق مصالحها ولتأمين احتياجات مجتمعاتها بشكل لائق وأخلاقي؟ هل يسمح لهذه الشعوب أن تتخلص من بيروقراطياتها التي تمثل أعشاشاً للفساد المتغلغل حتى النخاع في مفاصلها؟
عالم الجنوب الذي يتمتع بثروات هائلة ممنوع عليه الاستفادة منها، ممنوع عليه التحضُّر أو حتى التفكير بصناعة حضارة؛ بل عليه أن يبقى مستجدياً ومحتاجاً لكل شيء، حتى في أبسط أموره، وهذه المجتمعات ليست أكثر من صور ممكيجة بأنواع مستوردة، غايتها تجميل المشهد الذي يخفي الأجساد الجامدة، وكأنها مانيكانات تلبس أحدث الموضات.
المهم من كل ذلك أنَّ الجوهر متناقض متخلف، لم يمتلك حتى اللحظة ثقافة الشراء وفكر التسوق ومنظومة الإنتاج والإبداع، لم تقدر هذه المجتمعات على الوصول إلى حلول لمشكلاتها، إنما تجيد مبادئ الخلاف والاختلاف بامتياز، والتسويات لا تتم إلا برعايات عالم الشمال، فأي تسوية تحتاج إلى آمر يفرض الحلول بشكل أو بآخر، لأن عقول مجتمعاتنا غدت مستوعبات للتخلف والذل والعار، وتحركاتنا تمثل أولاً وأخيراً فكرة الانقضاض والاقتناص، معتبرةً أنَّ الفرصة السانحة تستحق الاستباحة لكل شيء.
مما تقدم علينا أن ندرك أنَّ مصلحة الجبابرة وتصارعاتهم تشير إلى حاجاتهم الدائمة لإبقاء هذه المجتمعات في حالة التخلف، هل يعقل أننا حتى اللحظة لم ندرك إرادتهم، أم إننا مقتنعون بتخلفنا الجوهري وتحضرنا الصُوَري؟ وإلا فكيف بنا نستباح صباح مساء؟ أوَلم نتعلم أنَّ التحضُّر جوهر يتحرك من معادلة الجين في الدم قبل الملبس والمأكل والمشرب والسيكار؟ فالمتحضّر وإن سكن في بيت من الصفيح، ستشير عليك أفعاله أنه يستحق الاحترام، وإنساننا ولو سكن في قصر مشيد، لم يتعلم إلى الآن كيف يمسك بالشوكة، أو يقطع بالسكين، وإن فعل كان فعله مقلداً.
الكارثة الحقيقية أنَّ شعوبنا مصرَّة على التمسك بالجهل، والجهل غذاء التخلف، يتحول سوادهم إلى غوغاء، يستثمر بهم الجبابرة، يدفعون لبثّ الأحقاد وأنواع الكراهية السياسية والدينية.
أحد قادة دول الجبابرة يصف سكان عالم الجنوب بالحثالة، بسبب ألوان بشرتهم، وعدم قدرتهم على الاندماج، وغوصهم في دياجير الأصوليات اللامنطقية، وغلوائهم التديني، وعقائدهم المتكلسة، وتطرفهم في معتقداتهم، وتفلسفهم على بعضهم، من دون وصولهم إلى جوهر الفلسفة، فإذا كانت الفلسفة نتاج الدهشة، فلا يبدو أنَّ أحداً في عالم الجنوب اندهش، ومن ثمَّ حلل اندهاشه، حتى الجبابرة المستعمرون لهم بشكل أو بآخر يريدونهم على هذه الشاكلة، ففيها نجاحهم.
عندما جلت عالمياً عدت لأقول: إننا في هذا الوطن من اكتوى من صراعاتهم وأين؟ على أرضنا، وضمن حدودنا، فهل كنا غافلين عما سيجري معنا؟
من تحليلي وقراءتي أقول: كنا نعلم أنَّ هذا الوباء قادم منهم، وكنا في هذا الوطن نحضر له الدواء، وبمصارحة بعد أن صمدنا لسبع سنوات، أقول لشعبنا الوطني: لقد صمدنا جميعاً، والذين وثقوا بالجيش وقائد هذا الوطن، وأوقفوا قواهم اللوجستية والفكرية نجحوا، ومعهم نجح الوطن، على الرغم من حجم الهجمة وشراستها، فصحيح أننا لم نكن محصَّنين كفايةً، ولم يكن بناؤنا سليماً، ولم تكن علاقاتنا دقيقة ومقروءة بشكل نوعي، إلا أنَّ الذي حصل حصل، وها نحن اليوم مطالبون بتعزيز الثقة، فالقرار السيادي قرار وطن وقائد، وثباتهما يعني نجاحاً لنا ولحلفائنا الإستراتيجيين، آمنوا بما نؤمن به، فكل هذا يمنحنا نحن الشعب ثقةً لا حدود لها بالانتصار، وأنَّ كل ما يجري في الشمال السوري وشرقه وجنوبه أو عبر الإعلام ما هو إلا نهايات لنتائج مهمة ومفيدة، تصبُّ في مصلحة انتصار وطن من قمته إلى قاعدته، فإلى الخائفين والواهمين وبقايا الرماديين، وحتى لمن خرجوا عن وطنهم، واختاروا خانة الأعداء له، أؤكد أنَّ الأمور انجلت، وما ترونه وتسمعونه مغاير للحقيقة الممسوكة بيد أمينة، هي يد قائد الوطن وجيشه وشرفائه، وصراع المستكبرين مستمرٌّ، مؤكد أنه لن يهدأ، فلنستعدّ للانطلاق إلى الأمام، ولنعمل بثقة، لأننا نصرُّ على البقاء والنجاح.