ما بعد بعد سوتشي
| بسام أبو عبد اللـه
دعونا بداية نعترف أن موسكو نجحت في عقد مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري، على الرغم من محاولات العرقلة الأميركية المستميتة حتى اللحظات الأخيرة، تارة عبر المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، وتارة عبر ممثلي بعض المسلحين والتنظيمات القادمة من تركيا، ولكن الخارجية الروسية استطاعت تجاوز هذه العقبات، والأفخاخ التي وضعت لإفشال المؤتمر لينتهي بإصدار وثائقه، وبيان سوتشي الذي سيدخل التاريخ، أحب الخصوم والأعداء ذلك أم لم يحبوا، وليأتي الرد على وثيقة الخماسية «السخيفة» على حد وصف سفير بريطانيا السابق، أن ارفعوا أيديكم عن سورية واشغلوا أنفسكم بكتابة دستور حديث متنور متطور لشريكتكم، أو بالأصح لشركتكم «مملكة آل سعود»، التي تحتاج لنظام داخلي جديد يضبط حفلة الانتقال السلمي للسلطة من آل سعود، إلى آل سلمان، ما يتطلب تدخلكم، وبصماتكم.
أما في سورية فلا مكان لكم، ولم يبق لكم أصابع، ولا بصمات كما أظن، ولأن الأمر كذلك شهدنا حفلة الهستيريا الأميركية بدءاً من قائمة العقوبات لكبار المسؤولين الروس، وانتهاء بتصريحات الأذناب مثل وزير خارجية فرنسا، أو البراغيث مثل بعض الوجوه الصفراء لما يسمى «معارضة»، الذين تكاد الجلطة تصيبهم جميعاً من شدة الغيظ، لأنهم أمام هذا الحشد السوري الكبير لا يستطيعون القول: إن هؤلاء لا يمثلون أحداً، بينما بضع عشرات من التابعين للخارجية السعودية والبريطانية والأميركية يمثلون! ما هذا الهراء؟ إذاً، هم أمام تحولٍ في تقليدية المشهد السوري الذي كان يقوم على ثنائية جنيف: وفد الحكومة السورية الشرعية مقابل وفد أجهزة المخابرات الغربية، مع القدرة على التعطيل والمراوحة في المكان والابتزاز المستمر، وأهم ما في سوتشي أنه كسر هذا المشهد، وقدم نمطاً جديداً لأول مرة منذ سبع سنوات، نمطاً أوسع تمثيل شعبي سوري، كما قال أحد المعارضين، وفتح البوابات أمام المعارضة السياسية السلمية البناءة، والإيجابية التي فعلاً تمتلك الإرادة، والرغبة في الشراكة مع غيرها من القوى الوطنية السورية في تحديد معالم سورية المستقبل، ودفع أمام دي ميستورا ديناميكية جديدة لا يستطيع تجاهلها ولا تجاوزها، فمشهد القاعة في سوتشي كان كافياً ليفهم من يريد أن يفهم أن الإرادة الشعبية السورية هي من سيقرر المستقبل، وأن هناك اتجاهين الآن لمن يريد أن يختار: اتجاه شعبي سوري واسع نحو القواسم المشتركة، والحلول المنطقية الواقعية المثمرة والمنتجة، وبين اتجاه آخر كشف عن قناعه ببيان الخماسية الأميركي البريطاني الفرنسي مع ملحقاته السعودية الأردنية، فالأول سيمضي بفتح طريق الحل النهائي خطوة خطوة مهما ظهر من عراقيل، والثاني سيمضي في أوهامه، ومشاريعه الإجرامية التخريبية المكشوفة التي لا تزال ما قبل قبل سوتشي، أما أغلبية الشعب السوري مع جيشه والحلفاء فتعيش ما بعد بعد سوتشي.
للذين يريدون أن يعرفوا ما بعد بعد سوتشي، نقول لهم: إن الحل السياسي قد وضع على السكة على الرغم من محاولات العرقلة التي شهدناها وسوف نشهدها، وأن الميدان سيمضي باتجاه سحق الإرهاب خطوة خطوة، ويفترض بالحل السياسي أو الرؤية السياسية أن تحصن، وتدعم إنجازات الجيش على الأرض، وخاصة أن المؤتمرين أكدوا نقطتين مهمتين:
الأولى: إن سورية دولة ديمقراطية غير طائفية، وهي اللغة التي تختلف جذرياً مع بعض أطياف المعارضة التي كانت تجترها لسنوات!
الثانية: وحدة سورية، ووحدة أراضيها، وهو ما يسقط المشروعات الانفصالية التي تنفخ بها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وأبرزته في وثيقة «الخماسية» التعيسة.
لا شك أن هناك نقاطاً عديدة في بيان مؤتمر سوتشي بحاجة للتوضيح والشرح، ولكن أرى أن الإجماع على ما ورد في البيان سوف يضع دي ميستورا أمام ورقة ظل يناور بها طويلاً وهي ورقة «المبادئ الـ12» التي حاول التلاعب بها، وطرح ورقة خاصة به للتذاكي، وخارج إطار مهمته.
أضف لذلك: إن المسألة المهمة الأخرى هي مسألة الدستور التي كان واضحاً أن المطلوب منها هو «إصلاح دستوري» لدستور عام 2012، حيث تقوم اللجنة المكلفة بتقديم أفكارها فقط، ثم يجري العمل عليها في دمشق، وفي دمشق حصراً لتصدر لاحقاً تحت سقف المؤسسات الدستورية السورية، وليس كما كان يخطط دي ميستورا ومَنْ وراءه، بإنتاج دستور سوري في الخارج، وهو أمر مرفوض تماماً، وقد سقط من التداول بعد سوتشي.
ما أستطيع القول: إننا فعلاً دخلنا مرحلة جديدة مع مؤتمر سوتشي، وهذه المرحلة الجديدة سوف تخلق ديناميكيات دافعة للحل السياسي، على الرغم مما سنواجهه من عرقلات وعقبات ومحاولات لتفريغ المؤتمر من محتواه، والتشكيك بشرعيته ومصداقيته، وبجهود الأصدقاء الروس، وهو ما بدأنا نستمع إليه قبل يومين ممن يُسمي نفسه «ناطقاً باسم هيئة التفاوض السعودية» الذي تحدث ووجهه ينقط سُماً بأنه لا قيمة لسوتشي ولا لما صدر عنه، وكأن القيمة هي فقط لما يصدر عن «هيئة التفاوض» التي تأخذ شرعيتها من غلمان الولايات المتحدة الذين لم يجمعوا في مؤتمر «الرياض 2» سوى 120 شخصاً! أو ما قالته «هيئة التنسيق»! وهم بكل الأحوال يرددون ما يُطلب منهم سعودياً ومن ثم أميركياً، من دون أن يفهم هؤلاء أن الزمن تجاوزهم، والميدان أصبح في وادٍ آخر، وأن الذين يدعمونهم كانوا 120 دولة، ليصبحوا الآن ثلاث دول استعمارية وتابعين صغيرين، مقابل انقلاب الصورة التي عبثوا بها لسنوات وزوروا وضللوا وكذبوا حتى صدقوا كذبتهم مع عملائهم وأدواتهم.
نجح سوتشي بكل المعايير، فهو على الأقل قدم صورة حقيقية للشعب السوري، صورة أرعبتهم، صورة ظلوا لسنوات يريدون تقديمها لنا عبر مجموعة شخصيات لا تمثل إلا من يدفع لها، وأما السوريون فلا يفكرون الآن بما بعد سوتشي، بل ما بعد بعد سوتشي، أي باتجاه الانتصار الكبير عسكرياً وسياسياً، وهو هدف ماثل أمامنا جميعاً، ونسير باتجاهه خطوة خطوة.
فقط انظروا لهستيريا الخصوم والأعداء لتعرفوا أننا فعلاً نسير في طريق النصر الكبير على الرغم من المصاعب والعقبات.