الإسباني الذي غير وجه دمشق المعماري.. وبنى قصر الأيوبي
| شمس الدين العجلاني
الإسباني: هو محمد دي أراندا
الأيوبي: هو محمد عطا الأيوبي
القصر: قصر محمد عطا الأيوبي في العفيف
محمد دي أراندا
هو فيرناندو دي أراندا سمي على اسم والده الموسيقار الذي ولد في العاصمة الإسبانية مدريد وكان أستاذاً في الكونسرفاتوار، وفي عام 1886 وافق فيرناندو الأب على العرض الذي قدمه سفير السلطان التركي للانتقال إلى استانبول والعمل في القصر العثماني، غادر فيرناندو الأب بلاده إلى استانبول مع عائلته وعيّن هناك قائداً للفرقة الموسيقية العسكرية ومدرساً خاصاً للموسيقا لابن السلطان ولعدد من أفراد السلطة الحاكمة، ومكث في تركيا طوال 23 عاماً، حيث عاد إلى إسبانيا عام 1909م وترك ابنه المهندس فيرناندو دي أراندا الذي رفض العودة إلى بلاده وآثر الإقامة في الشرق الأوسط. لكنه لم يمكث طويلاً في إستانبول فغادرها إلى ألمانيا ثم فرنسا، ويشير بعض المصادر إلى أنه درس في إستانبول هندسة العمارة كما درس التصميم في مدرسة الفنون الجميلة وساهم في تصميم وتنفيذ بعض أبنية إستانبول. ولكن هنالك من يقول إنه لم يدرس الهندسة وإنما كل إبداعاته كانت نتيجة عبقريته وخبرته!
ولد فيرناندو دي أراندا غوميث الابن، في مدريد بتاريخ 31 كانون الأول عام 1878م، وتوفي يوم السبت 27 كانون الأول عام 1969م بدمشق في بيته بمنطقة المهاجرين وصلي على روحه في جامع المرابط ودفن في مقبرة باب صغير. والدته أليسا غونثاليث غوميث توفيت بعد ولادته بفترة وجيزة، تمتع فيرناندو بحياة مملوءة بوسائل الراحة والرفاهية نتيجة عمل والده لدى السلطان العثماني، وكان ميالاً منذ صغره إلى فن التصميم والهندسة، تزوج في دمشق مرتين الأولى من سيدة من أصول يونانية من مدينة أثينا تدعى زنوبيا سيريكاريس، تعرف عليها بفندق فكتوريا الذي كان قائماً في ساحة المرجة، ولديه منها ولدان الأول مانويل مواليد عام 1911م وكارلوس مواليد عام 1912، والثانية من سيدة سورية اسمها صبرية حلمي.
في عام 1902م أو عام 1905م استدعي إلى دمشق من رئيس معماريّي الخط الحجازي للعمل في إنشاء محطة الخط الحجازي في القنوات، أو حضر إلى دمشق بمبادرة منه.
أقام فيرناندو حين قدومه لدمشق لأول مرة بفندق فكتوريا، ومن ثم انتقل مع عائلته إلى حي ساروجا في منزل يملكه شخص اسمه توفيق، ثم انتقل بعد ذلك إلى شارع فؤاد الأول وأقام مع أسرته في الطابق الأول الذي يعلو المكتبة العمومية التي كان يملكها أديب خير، ومن ثم انتقل إلى بناء في منطقة الحلبوني، وخلال إقامته بدمشق تعرف على العديد من أعيان ومثقفي البلد منهم سلطان باشا الأطرش، ومحمد كرد علي، ونوري الشعلان، والمهندس الشهير آنذاك سليمان أبو شعر، والموظف في وزارة المواصلات سهيل شباط.
عمل فيرناندو بدمشق في مجال التصميم المعماري والشأن الدبلوماسي حيث كان نائباً للقنصل الفخري الإسباني في دمشق بين عامي 1912م- 1936م.
وخلال الحرب العالمية الأولى غادر دمشق العديد من قناصل الدول الأوروبية وعهدوا لفيرناندو بمسؤولية رعاياهم.
شغل فيرناندو وظيفة الإشراف المعماري على مخططات الأبنية الرسمية بدمشق في وزارتي المواصلات والأوقاف إضافة للعديد من الأبنية الأخرى الخاصة والرسمية، وأتقن أربع لغات الألمانية والفرنسية والتركية والعربية إضافة للغته الأم الإسبانية.
زواجه
لم تكن علاقة فيرناندو بزوجته الأولى اليونانية زنوبيا على ما يرام، وكانت حياته الزوجية تسوء يوماً بعد يوم والنزاعات بينهما تزداد وتتكرر باستمرار، وشاءت الظروف أن تطلب عائلة «حلمي» الدمشقية الثرية من جذور تركية، من فيرناندو أن يبني لهم منزلاً بدمشق، ومن خلال تردد فيرناندو على هذه العائلة تعرف على ابنتهم صبرية وكان عمرها آنذاك ثلاثين عاماً فهي من مواليد 1897م وتصغره بعشرين عاماً، وفي عام 1927م تزوج من صبرية زوجته الثانية.
في عام 1936م حدث انفصال نهائي بين فيرناندو وزوجته زنوبيا التي غادرت دمشق مع ولديهما إلى بيروت وبقي فيرناندو بدمشق، وفي عام 1936 سافر مع زوجته صبرية إلى حيفا واعتنق الدين الإسلامي هناك وسمى نفسه محمد دي أراندا.
توفيت زنوبيا، زوجته الأولى، في بيروت عام 1952م وبتاريخ 8 آذار من عام 1954م ثبت فيرناندو زواجه من صبرية في السفارة الإسبانية وكان فيرناندو وصبرية يعيشان آنذاك في منزل ملك لصبرية يقع في شارع ناظم باشا بالقرب من جامع المرابط في منطقة المهاجرين، كما كانت عائلتها تملك فندق فكتوريا الشهير بساحة المرجة الذي هدم في القرن الماضي.
فيرناندو الذي غير وجه دمشق
من الصعوبة بمكان أن نتحدث عن أوابد دمشق العريقة وعماراتها الرائعة من دون الحديث عن فيرناندو دي أراندا الذي كان له الأثر الكبير في عملية تطوير العمارة والعمران في دمشق وبعض المدن السورية الأخرى خلال النصف الأول من القرن العشرين.
خلال أكثر من خمسين عاماً أنجز المهندس فيرناندو عدداً من الأبنية المميزة الرائعة بدمشق التي لا يزال أغلبها قائماً حتى الآن شاهداً على عظمة أعمال فيرناندو، فقد صمم بناء البسام مقابل بناء مجلس الشعب ويمتاز هذا البناء على بساطته باستعمال الموزاييك الإسمنتي الملون كإطارات للنوافذ والأبواب. كما أنجز عدداً من البيوت الفخمة مثل قصر عطا الأيوبي عام 1928م، ومنزل جميل مردم بك في حي نوري باشا، واستعمل لأول مرة بدمشق الإسمنت المسلح بين عامي 1925 – 1927 في بيتين مازالا قائمين حتى الآن في حي السنجقدار، ومبنى جامعة دمشق الذي شيد ما بين عامي 1922 – 1923م، وبناء في حي الحلبوني مؤلف من ثلاثة طوابق، وبناء العابد الشهير في ساحة المرجة وهو بناء ضخم بني على النمط الألماني وأنشأ عام 1906م فندقاً ثم حول إلى ثكنة عسكرية خلال الحرب العالمية الأولى 1910، ويعتقد أن تصميمه منقول وأن دراسته مستوردة، قدمها المعمار الألماني ماينسر، وقام بتنفيذها فيرناندو، ومبنى الأوقاف «المصرف التجاري السوري» الذي شيد عام 1930م في شارع النصر وكان مقراً للعديد من المراكز الحكومية زمن الاحتلال الفرنسي، وبناء المكتبة العمومية «لم يعد موجوداً» وهو من أوائل الأبنية التي بناها فيرناندو بدمشق وعاش فيه مع عائلته حتى عام 1922م وكان أيضاً مقراً للقنصلية الإسبانية.
عام 1940م صمم بناء وزارة المواصلات الحالي، وصدق على بناء الجناح الغربي في المتحف الوطني الذي صممه المهندس الفرنسي ميشيل إيكوشار، كما صدق على بناء قصر العدل الذي صممه المهندس عبد الرزاق ملص، ومسجد المرابط في المهاجرين، وصمم فيرناندو أبنية وقف جامع الطاووسية، وقصر خالد العظم في دمر «الآن مطعم بيت ورد»، ومنزل حقي العظم، ومنزل منيف اليوسف اللذين كانا في حي الأكراد.
كما قام فيرناندو ببناء فندق زنوبيا الشهير في مدينة تدمر عام 1924، والمشفى الحميدي «الغرباء» جانب مبنى جامعة دمشق، قصر ناظم باشا بالمهاجرين، ومدرسة الحقوق «وزارة السياحة حالياً»، ومبنى كلية الحقوق في جامعة دمشق «الثكنة الحميدية».
رغم ما ذكرناه أعلاه عن فيرناندو إلا أنه يعتبر شخصية غامضة مطوقة بالضباب، ولغزاً من ألغاز دمشق على حد قول كل من الإسبانيين «أليخاندرو لاغو» و«بابلو كارتاخينا» مؤلفي كتاب «فيرناندو دي اراندا»، فيقولان: «نستطيع القول إن فيرناندو دي أراندا شخصية غامضة «مطوقة بالضباب» ككثير من الأشياء في هذا الجزء من العالم… هو شخصية غامضة».
محمد عطـا الأيوبي
ولد بدمشق عام 1877م، وهو ابن محمد علي بن عطا اللـه بن محمد سعيد بن أحمد. ترعرع محمد عطا بدمشق ودرس في مدارسها وتابع دراسته العليا بين دمشق وإستانبول، ابتدأ عمله السياسي حين مثـل شرق الأردن في مجلس المبعوثان الثاني في عام 1912م، ثم أصبح وزيراً لأول مرة بعد دخول الأمير فيصل إلى دمشق عام 1918م في وزارة رضا الركابي، وتقلد بعدها عدداً كبيراً من المناصب فكان وزيراً للداخلية عام 1920 م في وزارة علاء الدين الدروبي، ونجا من حادثة مقتل الدروبي وعبد الرحمن اليوسف في 12 آب عام1920م في درعا بقرية خربة الغزالة، كما كان وزيراً في وزارة جميل الألشي ووزارة حقي العظم، ومديراً للعدلية في وزارتي صبحي بركات عام 1922م وعام 1924م، كما كان رئيساً للوزراء عام 1936م، وخلال الفترة من 25-3-1943م إلى 19-8-1943م كان رئيساً للدولة والحكومة.
وصف الأيوبي بأنه «مخلص لفرنسا»، لكن قيل أيضاً إنه كان قومياً كرس نفسه لخدمة سورية واستقلالها ولم يكف يوماً عن استعمال مركزه السياسي لتقديم الخدمات للثوار ضد المحتل.
كان آخر منصب تولاه الأيوبي عضويته لمجلس إدارة شركة الإسمنت حتى وفاته عام 1951 في دمشق ودفن فيها، وقد أطلق اسم عطا الأيوبي على شارع من أجمل شوارع دمشق.
القصر
حين أقام الوالي عثمان نوري باشا، قصره الجميل والرائع في منطقة العفيف بدمشق عام 1889 م، وهو مقر السفارة الفرنسية منذ عام 1946م حتى الآن. أراد محمد عطا الأيوبي، أن يشيد قصراً مشابهاً له ومجاوراً له أيضاً، فاستدعى لذلك المهندس فيرناندو دي أراندا، وكلفه ذلك.
قام فيرناندو ببناء قصر محمد عطا الأيوبي مشابهاً لقصر نوري باشا، وكان ذلك عام 1928 م، وحرص فيه فيرناندو على متابعة الطراز العمراني والزخارف الموجودة الخاصة بقصر نوري باشا، لذا من يدخل قصر عطا الأيوبي يمكنه تخيّل أنه دخل قصر نوري باشا.
أُنشئت حول قصر الأيوبي الحدائق الغناء وزرع حوله الشجر المثمر والورود والياسمين، كما أقيمت فيه بحرات المياه والنوافير، وأحيط بالمصابيح الكهربائية فجاء القصر بأبدع الحلل بطرازه الأوروبي، وكان نموذجاً للعمارة في دمشق في العصر الحديث.
سكن محمد عطا الأيوبي في قصره إلى أن توفاه الله، ولم يزل القصر قائماً حتى الآن وحالته جيدة.