الرحلات في التاريخ العالمي.. في العصور قبل الحديثة يعتمد كثيراً على كتابات وضعها رحالة يصفون ما رأوه وسمعوه وهم يتنقلون
| سارة سلامة
كتاب «الرحلات في التاريخ العالمي»، في العصور ما قبل الحديثة، صدر حديثاً عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب، حيث يبرز بعضاً من أعظم الرحالة في التاريخ العالمي، الناس الذين أخذوا على عاتقهم القيام بأسفار بعيدة إلى أماكن كان علمهم بها، في الأغلب قليلاً أو معدوماً، ثم رجعوا إلى ديارهم لإشراك الآخرين في خبراتهم.
كما يستعرض حصيلة تمتد آلاف الأعوام تضم تحليل سير وحكايا لرحالة من مختلف شعوب الأرض جالوا خلالها في بقاع غريبة وبعيدة عن موطنهم بدافع الاستطلاع والفضول والمعرفة.
الكتاب من تأليف مؤرخين أميركيين من أساتذة الجامعات في بلادهما هما ستيفن غوش وبيتر ستيرنز، ترجمه للعربية وفيق فائق كريشات، حيث توقف المؤلفان عند عام 1500 ميلادي والذي يعرف العالم بعده عصر الاكتشافات الكبرى من الأوروبيين للأميركيتين وأستراليا ومجاهل آسيا وإفريقيا والتي تحولت فيها الرحلات إلى أدوات مهدت للاستعمار والاستيطان واحتلال الأرض.
فمن هيرودوت والسياح الرومان إلى إنشاء طريق الحرير، إلى رحلة ملحمية صعبة من الصين إلى الهند في القرن السابع إلى ماركو بولو وابن بطوطة، إلى أول التأملات في السفر الفضائي، يقدم «الرحلات في التاريخ العالمي، (العصور قبل الحديثة)» نظرة عامة إلى رحلات المسافات الطويلة في إفريقيا وآسيا من 400 قبل الميلاد إلى 1500م
ويستعمل هذا المسح الروايات التي خلفها أصحاب الرحلات الملحمية في العالم قبل الحديث كعدسات يتفحص من خلالها تطور السفر والتجارة والنقل والتبادل الثقافي بين الصين وآسيا الوسطى والهند والشرق الأوسط وأوروبا مع مناقشته أيضاً موضوعات مثل قيام الإمبراطوريات وانتشار الأديان العالمية، وتحلل هذه الدراسة الوجيزة والشيقة، المكملة بالخرائط أيضاً كيف شكلت الرحلات حدود الجبهات السياسية والجغرافية والثقافية.
هل الرحالة يصدقون؟
يعتمد هذا الكتاب كثيراً على كتابات وضعها رحالة يصفون ما رأوه وسمعوه وهم يتنقلون و(أحياناً)، كيف يمضون من مكان إلى مكان، لكن هل رحالة العصور قبل الحديثة يصدقون؟ هل الحكايات التي أنتجوها مصادر موثوقة للأدلة عند العلماء الحديثين؟ ذات يوم كتب سترابو، وهو رحالة يوناني من القرن الأول الميلادي، يقول: «كل محدث بقصة رحلاته متبجح» كما سنرى في سياق هذا الكتاب، التباهي بمغامرات المرء الشخصية على الطريق أو في البحر كان سمة لأدب الرحلات في العصور قبل الحديثة، سمة مستمرة، لكن ليست عامة، لكن أخذ موقف من التشكيك الصحي من جانب القراء الحديثين، والانتباه الدقيق إلى العناصر المتنوعة والمتناقضة أحياناً المندسة في حكايات الرحلات، والاستعمال الحذر لمصادر الأدلة الأخرى يمكن لذلك أن يصوب تبجحات الرحالة ويمكن البحاثة من التمييز، في أكثر الأحوال، بين ما هو ثابت تاريخياً وما ليس كذلك، هذه المقاربة العامة مجدية أيضاً في التغلب على معضلة ثانية قائمة في صلب أكثر أدب الرحلات في العصور الحديثة، بالتحديد ميل الرحالة للإغراب، وللإتيان بخيالات في ما يتعلق بالبلدان والشعوب التي يزورونها.
تاريخ عالمي
يغطي الكتاب جانباً واسعاً من الميدان التاريخي والجغرافي، لكن كما لاحظنا أعلاه، هو أبعد من أن يكون قصة تامة للرحلات قبل سنة 1500، مراعاة للناحية العملية، حذفت أقاليم مهمة كالأميركيتين وبين سلاسل الجزر الكبرى في المحيط الهادئ، لكن الأدلة المتوافرة عن هاتين المنطقتين- بالمقارنة مع أفرو آسيا- لا تزال محدودة جداً، علماً أن هذا الأمر آخذ في التغيير، كما يتضح من كتب تشارلز مان وبين فيني وغيرهما، يصدق الأمر نفسه على الرحلات من الهند وجنوب شرق آسيا، الإقليمين اللذين أنتجا وفرة في الرحالة الشديدي التحمل، بيد أن السجلات الوثائقية ضعيفة، رغماً عن هذا الحذف، القصد من هذا الكتاب أن يكون إسهاماً في التاريخ العالمي، بؤرته الرحلات بين المناطق الكبرى في آفرر آسيا قبل العصور الحديثة، التي من الراجح أنها كانت تشتمل سنة 1500 على 80 بالمئة من الجنس البشري، بفعل ذلك، يأمل المؤلفان أن يضيف الكتاب شيئاً جوهرياً إلى النقاش الواسع النطاق الدائر اليوم في أصول العولمة وطبيعتها.
العصر الكلاسيكي
وتضمن البحث في الفصل الثالث «إقليم الشرق الأوسط والبحر المتوسط، 1000 قبل الميلاد- 500 ميلادية، حيث ركز البحث على العصر الكلاسيكي وبشكل خصوصي على منطقة المتوسط، وكان اليونانيون والرومان أكثر الرحالة ظهوراً ونفوذاً في هذا الإقليم، وكانوا قد طوروا أيضاً مقدرة جديدة فكتبوا عن أسفارهم، ، وهذا ابتكار مهم بحد ذاته، لقد أصبح اليونانيون أكثر راكبي البحر نشاطاً في المتوسط، وكان اليوناني هيرودوت هو الذي أتى باستعمال جديد للرحلات في دعم رواية رسمية لأسفاره، من الناحية الفعلية كجزء مما ندعوه اليوم تاريخاً وجغرافياً إقليمين، طور الرومان تقليداً غنياً من الرحلات البرية والبحرية معا، كذلك كانت الحاضنة الرومانية هي المكان الذي برزت فيه الرحلات المسيحية الباكرة، ومن ذلك الحج إلى القدس بين نحو سنتي 300 و500 ميلادية.
لكن بروز اليونانيين والرومان كرحالة قد هيأ له مجتمعين آخرين، كان كلاهما عاملاً في القرون الكلاسيكية الباكرة: الفرس، الذين شجعت مؤسساتهم تشجيعاً كبيراً السفر في أرجاء الشرق الأوسط، والذين قدّموا أنموذجاً للمجتمعات التي جاءت بعدهم في الإقليم نفسه، والفينيقيون، كانوا بلا ريب أكثر الرحالة في التاريخ العالمي إلى ذلك الوقت جسارة، وإن كان أثرهم في الأسفار التي جاءت لاحقاً أكثر غموضاً.
العصر ما بعد الكلاسيكي
اتخذ السفر في القرون التي تلت سنة 500 ميلادية تقريباً أبعاداً جديدة، بالمقارنة مع نظيره في العصر الكلاسيكي، صار الرحالة الأفراد الأكثر بطولة يغطون في المرحلة المشار إليها مسافات أطول، محتكين مع مجتمعات أكثر تنوعاً، ومع ازدياد معدل الرحلات، كذلك أخذت الرحلات تولّد عواقب أكثر شأناً، ولاسيما دعم احتكاكات تجارية جديدة ونشر الأديان العالمية، لقد أصبح السفر حقاً جزءاً لا يتجزأ من شبكة متسارعة من الاحتكاكات بين آسيا وإفريقيا وأوروبا.
تفسر بضعة عوامل الأبعاد المتغيرة للسفر، لقد كان حاسماً مقدم الأديان الجديدة، ولاسيما الإسلام، أو تنامي الاهتمام بالأديان الأخرى كالمسيحية أو البوذية، مع ابتعاد الدين عن الصبغة المحلية، أمكن للرحالة نيل حسّ من التأييد الإلهي، حتى وهم يتغلغلون داخل أراضٍ مترامية الأطراف، كذلك أمكنهم العثور على زملاء من المؤمنين، حتى في أوساط ثقافية وسياسية مختلفة جداً، كانوا عوناً لهم في مسيرهم، وقدموا لهم الألفة في الغربة، كذلك قدّم الدين دافعية جديدة للسفر، لترويج الدخول فيه أو للسعي وراء الاحتكاك مع ينابيع الإيمان في أماكن بعيدة.