التعليم العالي عام 2018 … ما يجتاح العالم من أزمات تؤثر سلباً في تدويل التعليم العالي توفير الموارد المالية لإصلاح الجامعات أهم تحدٍ أمام الحكومة
| أ. د. وائل معلا
يتأثر التعليم العالي، شأنه في ذلك شأن كل القطاعات الأخرى، بالظروف العامة الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية السائدة. وليست الظروف المحلية ولا الإقليمية فقط هي ما يؤثر سلباً أو إيجاباً على منظومة التعليم العالي، بل أن للظروف العالمية انعكاساتها، لا بل تداعياتها على مجمل حالة الجامعات، خاصة في الدول الجاذبة للطلاب الأجانب، كما هو حال الجامعات الغربية خاصة.
اهتم الباحثون بهذا الجانب، وقد استرعى انتباهي مقال بعنوان: «استمرار معضلات التعليم العالي في عام 2018»، نشرته مؤخراً مجلة (أخبار عالم الجامعات) University World News – وهي مجلة إلكترونية تصدر في بريطانيا وتعنى بأخبار التعليم العالي في جميع أنحاء العالم. كاتب المقال فيليب ألتباخ، أستاذ وباحث في سياسات التعليم العالي ومدير مركز التعليم العالي الدولي في كلية بوسطن بالولايات المتحدة الأميركية.
النزاعات القومية والتعليم
استبعد ألتباخ في مقاله أن يكون عام 2018 عاماً مميزاً للتعليم العالي في العالم، وقد عزا ذلك إلى النزعات القومية واستمرار تأثيراتها السلبية، وإلى استمرار الصراعات، وإلى القيود والأعباء المالية المترتبة على التعليم العالي. كلها عوامل تؤثر سلباً في هذه المنظومة في العالم، على الرغم من النمو الاقتصادي العالمي، والإقرار العام بأهمية التعليم العالي وضرورة إيلائه الأهمية والعناية التي يستحق.
يرى ألتباخ أن الموجة السياسية التي تجتاح العالم تؤثر سلباً في تدويل التعليم العالي، ومن المرجح أن تتفاقم هذه التأثيرات في عام 2018 وربما تمتد إلى أبعد من ذلك. وكدليل على تراجع تدويل التعليم العالي في أنحاء مختلفة من العالم، يؤكد ألتباخ أن عدد الطلاب الأجانب المسجلين في الجامعات الأميركية قد انخفض لأول مرة منذ أكثر من عقدين، علماً أن الولايات المتحدة الأميركية هي أكثر بلد مضيف للطلاب الأجانب في العالم. تقلص الأعداد هذا وإن ظل محدوداً، سياسات دونالد ترامب هي أحد أسبابه، إلا أنها ليست السبب الوحيد؛ فقد لعبت عوامل أخرى دوراً مهماً في هذا التراجع، كإيقاف برنامج المنح الدراسية الخارجية الضخم المخصص للطلاب في البرازيل، وتعثر برنامج المنح الدراسية للطلاب السعوديين، إلى جانب عوامل أخرى عديدة. ومما لا شك فيه أن جملة القيود التي فُرِضت على منح تأشيرات الدخول لحاملي جنسيات بعض البلدان، وخاصة البلدان ذات الأغلبية المسلمة، ووجود جو عام غير ودي من بعض قطاعات الحكومة والمجتمع، كفيلان بفرض ضغوط ستؤدي إلى انخفاض أعداد الطلاب الأجانب القادمين إلى الولايات المتحدة للدراسة، على الرغم من أن الجامعات الأميركية ما زالت تبدي رغبتها في استقبال الطلبة الأجانب.
ومن جهة أخرى، خلق قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي شكوكا كبيرة بشأن الدراسة في المملكة المتحدة لدى الطلاب من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي خاصة. ومن المرجح أن يستمر هذا العامل الضاغط في هبوط أعداد الطلبة المنتسبين إلى الجامعات البريطانية من دول الاتحاد الأوروبي. فضلاً عن أن مشاعر العداء للأجانب لدى التيارات اليمينية المتطرفة تُنتِج ظروفاً طاردة للطلاب الأجانب في الجامعات الأوروبية.
ومن جهة أخرى، هناك بعض البلدان المضيفة التي لم تتأثر نسبيا بنزعات التعصب والعداء للأجانب والتي باتت تستفيد بالفعل من عزوف الطلاب الأجانب عن الدراسة في دول مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفي دول أخرى تنشط فيها النزعات القومية اليمينية. وتعد كندا على الأخص في طليعة الدول المستفيدة والجاذبة للطلاب الأجانب للدراسة في جامعاتها، لما تتمتع به من بيئة مرحبة وجامعات عالية الجودة يزداد عددها تباعاً.
مجانية التعليم العالي… موضوع نقاش دائم
وفي السنوات القليلة الماضية، اكتسبت المناقشة المتعلقة بضرورة توفير تعليم عال مجاني زخماً في عدد من البلدان. وقد كان هذا مفاجأة للكثيرين لأن معظم المحللين في مجال السياسات الاقتصادية والتعليم العالي متّفقون على أن الرسوم الدراسية المجانية لا يمكن تحملها في عصر الانتشار الجماهيري للتعليم العالي. فضلاً عن أنهم يعتبرون أنها ليست سياسة عامة جيدة لأنها تقدّم في كثير من الأحيان دعماً مادياً وإعانات لا لزوم لها لمن يستطيع تحمّل نفقات التعليم العالي.
ومع ذلك، ورغم ما يترتب على مجانية التعليم العالي من أعباء مادية كبيرة على الدولة، فإنها ما زالت مطلباً أساسياً للطلاب وعلى جدول أعمال عدد متزايد من بلدان العالم. وكانت الحركة الطلابية في جنوب إفريقيا في طليعة المطالبين بمجانية التعليم العالي، فتم تعيين لجنة تحقيق حكومية أوصت مؤخرا بعدم إلغاء الرسوم الجامعية. لكن رئيس جنوب إفريقيا جاكوب زوما خالف نصيحة اللجنة وأعلن في أيلول 2017 أن الحكومة التى يقودها المؤتمر الوطني الإفريقي ستقدم التعليم العالي المجاني المدعوم بشكل كامل من الدولة إلى الطلاب الفقراء في المرحلة الجامعية الأولى بدءا من عام 2018.
وفي تشيلي، دفعت الاحتجاجات الطلابية الضخمة التي اندلعت في عام 2016 حكومة ميشيل باشيليت إلى الوعد بالقضاء على الرسوم الدراسية، إلا أن الواقع المالي للحكومة منعها من الوفاء بوعدها بشكل كامل، ومن المرجح أن يزيد انتخاب حكومة أكثر محافظة من احتمال حدوث المزيد من الاضطرابات. وفي ألمانيا، فرض عدد من الولايات رسوما دراسية في السنوات الأخيرة، لكن سُجِّل تراجع كبير عن هذه السياسة ليصبح البلد بأكمله مجاني التعليم.
كذلك فقد كانت الرسوم الدراسية المجانية قضية مهمة في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، حيث تبناها المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز بقوة. وقد أبدت هيلاري كلينتون في وقت لاحق تأييداً كبيراً لمقترح ساندرز سعيا منها لكسب مؤيديه. غير أن انتخاب دونالد ترامب أنهى حركة التعليم العالي المجاني في الولايات المتحدة.
وفي المملكة المتحدة مازالت قضية التعليم العالي المجاني تُثار إلى حد كبير، وقد وعد زعيم حزب العمال البريطاني المعارض جيريمي كوربين في حملته الانتخابية عام 2017 بإلغاء الرسوم الدراسية، لكن نتائج الانتخابات العامة لم تأت في فائدته، ولا في فائدة مجانية التعليم العالي. وعلى حين أن الحقائق المالية في معظم البلدان ستمنع التنفيذ الواسع النطاق لمجانية التعليم، فمن الممكن تماما أن تظل الفكرة موضوع نقاشات طويلة، وربما تزداد زخماً في عام 2018.
تمويل التعليم العالي في انخفاض مستمر
واجه التعليم العالي مشكلات مالية في معظم أنحاء العالم، على الرغم من الازدياد الكبير في النمو الاقتصادي في معظم أنحاء العالم. ويشير تقرير صدر مؤخرا عن رابطة الجامعات الأوروبية، على سبيل المثال، إلى أن 19 من أصل 34 نظاما للتعليم العالي قد شهدت انخفاضاً في التمويل، وأحيانا انخفاضاً شديدا، مع وجود مؤشرات ضعيفة على إمكانية التحسن.
فمثلاً، شهد التعليم العالي العام في الولايات المتحدة تخفيضات ملحوظة في الميزانية في السنوات الأخيرة على الرغم من تحسن الاقتصاد. بعض بلدان العالم مازالت تستثمر في جامعات النخبة، وتقع الصين في صدارة هذه البلدان. ولكن حتى في الحالة الصينية، لا يزال النظام الأكاديمي بأكمله غير ممول تمويلاً كافياً.
وعلى الرغم من أن هناك اتفاقاً عاماً على أن التعليم ما بعد الثانوي هو عنصر محوري في اقتصاد المعرفة العالمي، وهو أمر عامل رفاهية اقتصادية للأفراد وللمجتمع، فإن تمويله ما زال غير كاف بشكل عام.
وفي العديد من البلدان، لا يوجد تمويل حكومي كاف لأهم الجامعات البحثية، ما قد يؤثر في قدرتها التنافسية وعلى المكانة التي تحتلها في التصنيف العالمي. وقد أدى هذا الوضع إلى مزيد من التقدم للتعليم العالي الخاص، وإلى تزايد عدم المساواة في نظم التعليم العالي. ويبدو الاحتمال ضئيلاً في أن يتغير هذا الوضع تغيراً جذرياً في السنة المقبلة.
يستنتج الباحث مما سبق أن عام 2018 لن يكون على الأرجح عاماً قوياً لمنظومة التعليم العالي، على الرغم من النمو الاقتصادي العالمي، والاعتراف بأهمية التعليم ما بعد الثانوي؛ إلا أن التبعات السياسية للنزعات للقومية والقيود والأعباء التي فرضتها تلك الصراعات من أمنية ومالية وغيرها لا تبشر بالخير للتعليم ما بعد الثانوي.
فإذا كان هذا حال قطاع التعليم العالي العالمي وتحدياته، فماذا عن منظومة التعليم العالي في سورية لعام 2018؟
لا شك في أن قطاع التعليم العالي في سورية له خصوصيته، وقد اجتاز خلال الأعوام السبعة المنصرمة ظروفاً استثنائية للغاية. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي مازال يواجهها هذه القطاع على كل المستويات، إلا أنه من المتوقع أن يكون العام 2018 أفضل من سابقه. فمع التحسن الكبير الذي طرأ على الوضع الأمني، وظهور مؤشرات تدل على نهاية قريبة لحرب استنزفت قدرات الوطن البشرية والاقتصادية وخرّبت بناه التحتية، يتوقع أن ينعكس تحسن الوضع الأمني إيجاباً على مؤسسات التعليم العالي من حيث إعادة تأهيل البنى التحتية، وعودة القدرات البشرية، وانتظام العام الدراسي في مقر الجامعات في المناطق المحرّرة، وغيرها من الإجراءات التي تتيح للجامعات الوطنية تأدية الدور الذي يليق بها في بناء القدرات اللازمة لعملية التنمية وإعادة إعمار الوطن. وقد ظهرت أول مؤشرات التعافي بعودة العديد من الطلاب المستضافين بجامعة دمشق في العام الدراسي 2016-2017 إلى جامعاتهم الأصلية. ومن المتوقع أن يستمر هذه النهج في العام الدراسي الحالي. كما تقرّر في العام القادم 2018-2019 عودة كل طالب إلى جامعته الأم، ماعدا فرعي إدلب والرقة. وهذا كله من شأنه أن يخفف الضغط الطلابي على الجامعات المضيفة، وعلى رأسها جامعة دمشق، وينعكس إيجابا على جودة التعليم فيها.
وعلى صعيد البنى التحتية، يتوقع أن يبدأ في العام الحالي 2018 تشييد المباني الدائمة لكليات فرع جامعة دمشق بالسويداء. وربما نشهد في الأعوام القليلة القادمة تحول هذا الفرع إلى جامعة مستقلة على غرار جامعة حماة التي كانت فرعاً لجامعة البعث، وجامعة طرطوس التي كانت فرعا لجامعة تشرين.
ومع استمرار تحسن الوضع الأمني، من المرجح أن نشهد في النصف الثاني من العام الحالي عودة العديد من الجامعات الخاصة من مقراتها المؤقتة إلى مقراتها الدائمة التي استثمرت أموالاً طائلة في إنشائها وتجهيزها. ومما لاشك فيه أن ذلك سيكون له انعكاس كبير على جودة التعليم فيها.
ويبقى توفير الموارد المالية اللازمة لإعادة بناء وإصلاح الأضرار التي تعرضت لها مؤسسات التعليم العالي أهم تحد يجب على الحكومة التعامل معه. وحيث إن التعليم العالي هو مفتاح التنمية المستدامة البشرية والاقتصادية والاجتماعية، فلا بد من أن يولى أهمية بالغة يستحقها عن جدارة في مرحلة إعادة الإعمار. فمن دون توفير تعليم عال عالي الجودة، لن يتمكن بلدنا الغالي من استئناف عملية البناء والتطوير والمضي قدما فيها، وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، والانتقال بالمجتمع إلى مرحلة التنمية المستدامة.