وحيد مغاربة فنان متميز وسط مؤثرات فكرية وفنية … طاهر البني: استطاع الجمع بين براعة التكوين وروعة التلوين إلى جانب الأصالة المستمدة من الموروث
| سارة سلامة
نظراً لما للفنان وحيد مغاربة من حس وذوق رفيع، حيث اتسمت تجربته الفنية بالغزارة والكثافة والجمالية ما دفع صديقه الباحث طاهر البني لخصّه ببحث يتضمن المراحل التي مرّ بها إن كان في حلب أم في إيطاليا، مستشهداً بما قاله الفنان وخلده عن نفسه وكذلك شهادات الآخرين فيه، وعرض البحث المؤثرات الفكرية والفنية بلوحاته وتجربته في التصوير التجريدي ثم عودته إلى المنمنمات وتمجيد الفنان للحياة والعمل ومكانة المرأة في لوحته ببيئتها الشرقية وعلاقاته مع الطيور والخيول والأزهار.
وضمن سلسلة مسارات فنية صدر عن وزارة الثقافة- الهيئة السورية للكتاب، كتاب جديد للباحث طاهر البني يرصد فيه مسيرة الإبداع بين التأصيل والتحديث للفنان التشكيلي وحيد مغاربة، الكتاب يحتوي على مسيرة الفنان مغاربة ومختلف المعارض التي قام فيها داخل سورية وخارجها.
وتضمن مجموعة من الفصول ومنها: المعراج إلى برزخ المجردات، عودة إلى المنمنمات، تمجيد الحياة والعمل، جماليات الشرق في لوحات، تأملات في مقامات الإبداع، كل جديد يحتاج إلى خبرة ومعاناة، سحر العمل الفني وسر خلوده، البشر يرتفعون إلى السماء، قراءة في بعض لوحات وحيد مغاربة، شهادات وآراء، بعض الأعمال التصويرية للفنان مغاربة.
تمجيد الفنان للحياة
وجاء تقديم الكتاب على يد عبد الفتاح رواس قلعه جي الذي قال: «جاءت الدراسة متسمة بالموضوعية والاستيفاء، فقد أكد في نتاج وحيد تأثير البيئة في حياته، وفي حبه للعزلة التي رافقته طوال حياته في حلب وروما، والتي هيأت له فرصة وافية للتأمل والتفكير فيما يرسم، وإلى رصد البيئة الحياتية من حوله ليحولها إلى موضوعات تزخر بها رسومه».
وأضاف قلعه جي: «إن البني أغنى الكتاب باستشهادات وشهادات من أقوال الفنان نفسه، كما أجاد في عرض المؤثرات الفكرية والفنية في لوحات وحيد، من تأثر بمناخات الأسواق الشعبية وحركة الناس فيها، وملامح العمارة بما فيها من أصالة وحداثة والأسواق ذات الرائحة الشرقية المشبعة بتوابل السحر وضياء الشمس، وصور المنمنمات العربية والإسلامية ودورها في الناحيتين التكوينية والتلوينية في لوحات وحيد، وغيرها من المؤثرات الحياتية والاجتماعية والثقافية، كما عرض بعمق واستيفاء المراحل التي مرّ بها الفنان وحيد، ومنها المرحلة الإيطالية، وساق أقوال النقاد الغربيين في أعماله، ومرحلة ما بعد عودته إلى حلب، وتجربة وحيد في التصوير التجريدي، ثم عودته إلى المنمنمات، وأكد على تمجيد الفنان للحياة والعمل، واحتفائه بالمرأة في مناخاتها الشرقية ضمن علاقات محببة مع الطيور والأزهار والخيول».
الطاقة اللونية
وذكر الباحث طاهر البني في مقدمة الكتاب: «إن مغاربة فنان متميز لا يقل شأناً عن نظيريه، بل كنت أرى فيه ما يتفوق به عنهما، فإذا كان الكيالي يمتاز بمقدرته على الرسم التعبيري والتكوين المتين، وكان المدرس يمتاز بأسلوبه التصويري الذي يعتمد على الطاقة اللونية المشحونة بانفعالاته المتأججة، فإن المغاربة استطاع أن يجمع في لوحته براعة التكوين وروعة التلوين إلى جانب الأصالة المستمدة من الموروث الفني المحلي والحداثة في معالجة المادة التصويرية التي تتوازى مع المنجزات الفنية في العالم، وكنت أخشى أن يكون هذا اليقين في نفسي نابعاً من محبتي لشخص الفنان وأعماله التي استحوذت على إعجابي منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين».
المؤثرات الفكرية والفنية
حين فرغ وحيد من خدمة العلم، أخذ يقترب من الوسطين الفني والثقافي، فتعرف إلى الطبيب والباحث الدكتور سلمان قطاية وأخيه الفنان والناقد نبيه قطاية، وراح يعكف على القراءة الأدبية والفنية، ويزور المتاحف، ويتعرف إلى ألوان التعبير المختلفة في القصة والرواية والمسرح والسينما، ويقرأ الشعر القديم والمعاصر، ويتابع نظريات الفن وعلم الجمال وتاريخ الفنون العالمية، فشكل كل هذا رافداً واسعاً لمعرفته، ومحرضاً فاعلاً لمخيلته.
حيث قال: «أعترف أنني قرأت الشعر والرواية والقصة من هوميروس وفرجيل إلى كيتس ورامبو وريكله وأودين ولوركا وأدونيس في الأدب العربي، ومن امرئ القيس والمعري وأبي نواس والبحتري والمتنبي وابن الرومي وابن المعتز إلى شوقي ومطران والعقاد وأحمد زكي ونجيب محفوظ وبعض الشعراء المحدثين أمثال السياب وعبد الصبور والحجازي والبياتي والقباني وأبي ريشة وغيرهم، أما في القصة والرواية فقد قرأت لمعظم أدبائنا المجددين أمثال وليد اخلاصي وزكريا تامر وحنا مينة وغيرهم ممن لا مجال لتعدادهم».
ففاضت الصور المركبة لديه، ووجدت لها مسرحاً رحباً في تشكيلاته ومكونات مفرداته التي تتداخل ضمن تكوينات مبتكرة على نحو تبدو فيه بعض تأثيرات المدرسة التكعيبية في بنائية الشكل وتحليله عبر مساحات متداخلة بين القاتم والمضيء، حيث تتنفس الأشكال في أكثر من مستوى للرؤية عبر مناخات لونية كثيفة تنوس بين العتمة والنور، والبارد والدافئ، تعرض المواقف الدرامية في الحكايات الشعبية والأساطير الشرقية، وتجسد عوالمها الملحمية الممتدة في أعماق الذاكرة الإنسانية لبلاد الرافدين وأرض الشام.
المرحلة الإيطالية
ما حققه وحيد مغاربة من نجاح في معارضه في حلب وبيروت، وما أنجزه عبر مساهماته في المعارض الجماعية إلى جانب لؤي كيالي وغيره من الفنانين لم يثنه عن مواصلة دأبه ومتابعة دراسته الأكاديمية في إيطاليا، ففي عام 1975 سافر وحيد إلى روما وانتسب إلى أكاديمية الفنون الجميلة، رغم ضيق أوضاعه المادية، وتغلب على الظروف الصعبة والعقبات التي كانت تواجهه بمزيد من المثابرة والعمل.
حيث قال: «وصلت إلى محطة ما، لكنها ليست المحطة النهائية، وكان قطاري يتأهب من جديد نحو ما هو أعم وأشمل، وأكثر من محلي، فاخترت السفر إلى روما، واخترت البداية من الصفر منتسباً إلى كلية الفنون الجميلة».
وفي كلية الفنون الجميلة عرض وحيد صور لوحاته التي أنجزها في المرحلة السابقة على البروفيسور تروتي أستاذ مادة التصوير، وبعد أن تأملها رفع رأسه وقال لوحيد: أنت لست بحاجة للدراسة فابتسم وحيد وشكره، لكنه أصرّ على متابعة دراسته، وشرع ينهل من ينابيع الفن الخالدة التي لا تنضب، ويشاهد المعارض في الصالات والمتاحف، ويتعرف على روائع فنون التصوير والنحت الخالد، ويستمتع برؤية مئات التماثيل المنتشرة في كل مكان، وهي تفصح عن روعة الفن وتنطق بآيات السحر والجمال.
عودة إلى المنمنمات
المنمنمات التي أنجزها وحيد مغاربة في معرضه السابع عشر الذي أقامه في صالة الفنون الجميلة بحلب عام 1999 تشكل قالباً فنياً يقدم الموضوع التشكيلي في حيز صغير لا يتجاوز أحد أبعاده الثلاثين سم، والمنمنمات فن انتشر في معظم الرسوم الشرقية والإسلامية التي كانت تحتفي بها الكتب العلمية والأدبية والتاريخية في العصور الوسطى وبعض القرون التي تلتها، ولاسيما تلك المنمنمات التي أنجزها العرب في القرن الثالث عشر عبر فنون الرسم وصناعة الكتب، وكانت معظم المنمنمات يتم تصويرها على الورق المقوى، كما هو الحال في مقامات الحريري التي صورها الفنان العربي محمود بن يحيى الواسطي المحفوظة في عدد من المتاحف الغربية.
أما منمنمات وحيد مغاربة فقد صورت بالألوان الزيتية على الخشب المضغوط، وهذا التصوير يتطلب الكثير من المهارة والحذر ولاسيما إذا علمنا أن المنمنمة لدى وحيد لم يكن يتجاوز قياسها 18- 15 سم.