سوتشي في الميزان
| عبد المنعم علي عيسى
لم يكن مشهد انسحاب وفد المعارضة السورية من مؤتمر سوتشي يوم الثلاثاء الماضي مشهداً سياسياً يمكن أن تحتمله وقائع الحدث، والتشنج البارز على ذلك الوفد رداً، كما قيل، على إخلال روسيا بوعودها، كان مفتعلاً ولا يعدو أن يكون محاولة للطعن في الجهود الروسية، أما الخيارات التي ذهب إليها الوفد بتوكيل الوفد التركي بعيد انسحابه، فقد كانت سابقة غير معهودة من شأنها أن ترسم سقفاً جديداً لأفق التسوية السورية، إذ لم يسبق أن قام طرف سياسي بتوكيل طرف أجنبي في مواجهة وفد بلاده المتخاصم معه تحت أي ظرف كان.
لم تكن طقوس سوتشي بحاجة إلى المزيد من المفاجآت لكي تبدو كل تلك الارتباكية الظاهرة التي دفعت إلى «سلق» الكثير من مراحل الطهو، فالحرب التركية على عفرين كان من شأنها أن تبعد، أو تستبعد، المكون الكردي بشتى فروعه، حتى إذا ما أنهى وفد المعارضة مشهده المختص به، تكاملت شروط استخدام «الميكروويف» لحرق مراحل إنضاج الطبخة، ونحن هنا لا نقول إن انسحاب الوفد المعارض قد خلف وراءه تلك الحالة بسبب ثقلها أو الحيز الذي يشغله، وإنما كان ذلك لأنه يمثل إشارة خارجية تشير إلى مسعى غربي بزعامة أميركية لإفشال الجهد الروسي عبر عرقلة قطار سوتشي سواء بإعطاب السكة أم بخلق مناخات رديئة تضطر بقائد الرحلة إلى اتخاذ قرار بإيقافها.
كان من الواضح أن الحضور التركي قد جاء على مضض أو بفعل المطرقة الروسية التي لم تنس أن ترفق عصاها بـ«قطعة السكر» من الشهد السوري، لكن وعلى الرغم من ذلك فإن أنقرة لن تكون بوارد تقديم الدعم والإسناد لمسار سوتشي في المستقبل، ومن المؤكد أن حراكها تحت الطاولة سيكون غيره فوقها، وما محاولة الاعتراض على وجود، رئيس الجبهة الشعبية لتحرير لواء اسكندرون علي كيالي أو معراج أورال، إلا إشارة أرادت أن تقول عبرها إن الجعبة التركية لم تفرغ بعد، بل لا يزال فيها المزيد، وهي في الآن ذاته لن توقف مغازلة الغرب وإغاظته عبر إيحاءاتها التي تريد عبرها إفهام الغرب أن الروس منحوها ذلك الغطاء الذي «بخل» هو به عليها وهي ما انفكت تنتظره سبع سنين.
من حيث النتائج يمكن القول إن المؤتمر نجح في تحقيق مكتسبات مهمة في «المحافظة على أجهزة الأمن والجيش»، وهو أمر في غاية الأهمية خصوصاً في ظل ما كان يتسرب عن رؤية أميركية مفادها أن «التغيير» في سورية لا يمكن أن يحدث في ظل هذه التركيبة العسكرية والأمنية، كما أن التأكيد على علمانية الدولة وتعدد أطيافها، أمر في غاية الأهمية أيضا انطلاقاً من أنه يؤدي إلى الحفاظ على حيوية النسيج المجتمعي السوري على الرغم من الشرخ الذي تعرض له، أما الوصول إلى حل توافقي لتأسيس اللجنة الدستورية بقوام 150 عضواً مشاركاً بتقاسم ما بين الحكومة السورية والمعارضة والمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا فذاك أمر له العديد من المحاذير والمخاطر فالثلث الأخير قد يشكل «حصان طروادة» غربياً لطالما جهد الغرب في الوصول إليه وقد بدأ مساره منذ «الممرات الآمنة» الفرنسية عام 2012 ثم «كيميائي الغوطة» الأميركي عام 2013 لتتوالى بعدها محاولات وضع سورية تحت الفصل السابع على امتداد السنوات الأربع الماضية ولا تزال، وفي هذا السياق لن يطول الوقت حتى ينضح الإناء بما فيه، ففي خلال ترؤس الكويت لمجلس الأمن هذا الشهر أعلنت هذي الأخيرة عن جلسة ستكون خاصة بالأزمة السورية يفترض أن يقدم دي ميستورا فيها إحاطة بالجهود المبذولة لتأسيس اللجنة الدستورية التي أقرها مؤتمر سوتشي.
بالمجمل يمكن القول إن روسيا راضية عن المآلات التي خرج بها المؤتمر، أما تركيا فهي تتظاهر بالرضا، إلا أن ثمة مخاوف عدة لدى دمشق، وفي الأمر ما يدعو إليه، على الرغم من بيان التأييد الذي أصدرته الخارجية السورية في اليوم التالي لانتهاء المؤتمر والذي كان لافتاً لجهة أنه لم يحوِ أي تحفظ من أي نوع كان.
على الرغم من أن جرعة سوتشي لم تكن كافية لتهدئة عذابات السوريين لكن لم يقدر لها أن تستمر لأكثر من 24 ساعة، فسرعان ما تكشفت أثمان انعقاد سوتشي الباهظة عندما انبلج الصبح الأول ما بعد صدور بيانه النهائي وفيه عبرت 100 عربة عسكرية تركية متعددة الأغراض الحدود السورية متجهة نحو ريف حلب الجنوبي بهدف السيطرة على تلة العيس، صحيح أن المحاولة فشلت تحت ضغط سلاحي المدفعية والطيران السوريين إلا أن المؤكد أن هذا مسار يخرج حتى عن ثنائية «الشد والارتخاء» ما بين معركتي إدلب وعفرين، وهو لا يزال في بداياته والراجح أنه يحمل الكثير، وقد كان لافتاً ما نقلته صحيفة «لوفيغارو» عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخميس الماضي عندما قال: «إذا اتضح أن هذه العملية تتخذ منحى غير محاربة خطر الإرهاب المحتمل على الحدود التركية وتتحول إلى غزو فهذا سيمثل مشكلة حقيقية بالنسبة لنا» والمؤكد هو أن ماكرون لم يكن ليقول ما قاله لولا أنه يملك معطيات من شأنها أن تبرر إلى ما ذهب إليه خصوصاً أن كلاً من وزيري دفاعه وخارجيته كانا قد أطلقا تصريحات مشابهة في السياق نفسه.
التعليق الفرنسي هنا بعيداً عن دوافعه، قد يكون هو الأهم في فهم الدواخل التركية، فالطرفان، الفرنسي والتركي، قد خبرا بعضهما البعض جيداً ولم تزل حادثة سلخ لواء اسكندرون عام 1939 عن وطنه الأم وإلحاقه بتركيا ماثلة في الأذهان، وهي تمثل وصمة عار في جبين فرنسا الدولة المنتدبة على سورية آنذاك، وجريمة تاريخية موصوفة قامت من خلالها بتزوير نتائج ما أطلقت عليه «استفتاء» لتحديد هوية اللواء، ولذا فان الاثنين يفهمان على بعضهما البعض فهما «دافنينو سوا» كما يقال.
المشكلة أن رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان يرى في محيطه العربي فراغاً حضارياً وثقافياً وأمنياً وليس من حق أحد ملؤه أكثر من الأتراك، وهو لا ينفك يسوق لذلك مستعيناً بشتى أنواع المساعدات، واللافت في هذا السياق أن أردوغان كان قد أشاد في احتفال أقامه يوم 24 كانون الثاني الماضي، أي بعد مضي ثلاثة أيام على بدء عملية «غصن الزيتون»، بحماسة المواطنين الأتراك في ذهابهم إلى المساجد لتلاوة سورة الفتح تحديداً من أجل انتصار جيشه في عفرين، وعليه فمن الممكن القول إن هناك ثلاثة عوامل تثير الريبة في النيات التركية: الأول هو ما أثاره الأتراك في أوساط اللاجئين السوريين على أراضيهم من أن عليهم الانضمام للقتال تحت راية «غصن الزيتون» لأنها قامت أصلاً من أجلهم، والثاني يتمثل في الممارسات التركية الميدانية فالقوات التركية تقوم باقتلاع كل فرد كردي من المناطق التي تسيطر عليها ومن ثم تسليمها لـ«قوى محلية»، أما الثالث فهو إذا ما كانت روسيا تعتبر بشكل من الأشكال ضامناً للجموح التركي وفيما يمكن أن يصل إليه، فإن ذاك قد ينطبق على التموضع التركي القلق الراهن ولا يجب أن تغيب عن الذاكرة سيل إشارات الغزل التركية الموجهة للغرب والتي لو جاء رد إيجابي على إحداها لكانت أنقرة في تموضع آخر غير الذي نراها اليوم فيه، وربما كان «التطنيش» الغربي للغزل التركي مرده إلى أن الغرب موقن بأنه قادر على استرداد تركيا في أي لحظة يشاءها، وبمعنى آخر عندما يكون محتاجاً لها، وهو ما يمكن أن يفسر دعوة ماكرون للأتراك من تونس الخميس الماضي إلى التنسيق في عمليتهم العسكرية في سورية مع الحلفاء الأوربيين والغربيين.
في موازاة انطلاقة سوتشي المعلنة، خرجت إلى العلن تقارير عن لقاء سري جرى عقده في باريس عشية انعقاد سوتشي ليفضي إلى تحالف خماسي ما بين أطرافه، وهو يهدف ليس إلى نسف مسار سوتشي فحسب وإنما إلى نسف مخرجات السنين السبع المنصرمة والعودة بالأزمة السورية إلى نقطة الصفر، وتضيف تلك التقارير أنه نجم عن الاجتماع الذي حضره طرفان عربيان هما السعودية والأردن إضافة إلى طرفيه الأوروبيين الفرنسي والبريطاني وبزعامة أميركا، وثيقة كان أهم ما ورد فيها أمرين اثنين، أولهما أن دول التحالف قد ربطت مشاركتها بإعادة إعمار سورية بحصول عملية انتقال سياسي في سورية، وهو أمر يعني عبر المفهوم الأميركي للانتقال السياسي في سورية الحصول عبر المال على ما عجزت عن تحقيقه بالسلاح وبالسياسة أيضاً، وثانيهما أن دول التحالف ستعمل على إلغاء النظام الرئاسي القائم في سورية واستبداله بنظام برلماني على نحو ما جرى في العراق بعيد وقوعه تحت الاحتلال الأميركي عام 2003، ومما سبق يمكن القول الآن إن ثمة مسارين متناقضين هما في طريقهما إلى استكمال تبلورهما هما «سوتشي» و«باريس» وأن يحدث ذلك بعد حرب لا تزال قائمة منذ سبع سنين فذلك يعبر عن مدى تعقيد الصراع الدائر في سورية التي باتت أزمتها تهدد بنسف نظام دولي قائم منذ نيف وسبعين سنة، كما يفسر تصريحات الأميركيين التي ما انفكت تؤكد منذ أسابيع أنهم باقون في سورية إلى ما شاء الله، أي بمعنى إلى أن ترتسم التراصفات الجديدة التي سترسمها المعادلات الإقليمية والدولية الجديدة، وما يؤكد ذلك هو سعيهم نحو خلق مناخات دولية من شأنها تحصين وجودهم على الأراضي السورية على نحو ما فعلوا في إنشاء التحالف الخماسي سابق الذكر، وهو لن يلبث أن يتخذ مساراً آخر خاصاً من شأنه أن يحيل الأزمة السورية إلى لعبة شد حبل ما بين «سوتشي» و«باريس» بانتظار أن يستكمل هذا الأخير شروط تكامله، وربما كانت دعوة رئيس الوزراء الأردني هاني الملقي مؤخراً المجتمع الدولي لدعم الأردن بـ7 مليارات دولار من أجل خطة «الاستجابة الأردنية للأزمة السورية» هي الخطوة الأولى في تلك العملية.
كلمة السر إذاً هي الاستجابة الأردنية للأزمة السورية.