فوق احتمال الحقد
| إسماعيل مروة
ربما كان من حسن تصاريف القدر أن يعيش أحدنا في هذه الحقبة من الزمن، وهي تموج بالأحداث والحرب، ليكتشف أن جلّ ما كان يقال عن الحب والود والعلاقات الجيدة ليس إلا ضرباً من المجاملة أو النفاق الاجتماعي غير المحدود! وربما كان من سوء الحظ، لأن الإنسان سيكتشف مقدار الكره والحقد، ويعرف أن ما سمعه وعاشه ليس أكثر من قشور تخفي وراءها كرهاً فوق احتمال الحقد، ومن الممكن للحقد نفسه أن يكون أكثر رأفة ورحمة..
يفهم أحدنا أن دولاً كانت صديقة لم تعد كذلك..!
يمكن أن نستوعب أن صديقاً انقلب لمصالحه عدواً..!
يمكن أن يمر بخياله أن دولاً شقيقة يمكن أن تعجز عن احتواء الأزمات..!
أما أن يصبح الشقيق خصماً، ثم عدواً، ثم معتدياً، فهذا أمر صعب للغاية، وغير قابل للاستيعاب حتى من ألد الخصام.. وهذا ما شهدناه في هذه السنوات، فتحولت أغنيات العرب والإسلام والشرق كلها أغنيات ممجوجة مكرورة، مرفوضة في كل لحظة وحين..!
أن يعاتب السوري سورياً هذا أمر غاية في الأهمية.
أن يختلف السوري مع سوري فذاك غاية الرجاء للغنى..
أن.. وأن..
لكن أن يقف السوري راجياً حرق سورية، وداعياً إلى إلغائها فذاك أمر لا يمكن تصديقه..
وأن يتعامل السوري مع عدوان إسرائيلي على سورية بغبطة، وبحياد في أحسن الأحوال فذاك أمر غاية في الخطورة، وخاصة أن تلوّن هذا الإحساس بالتشفي والرضا، بل بالطلب من الكيان الإسرائيلي أن يفعل ما يشاء، وأن يتدخل في الحرب على سورية، وسيان عندي أن يتم الطلب لتدخل أميركي أو تركي أو إسرائيلي أو عربي، وقد سمعنا عن دعوات لتشكيل قوة عربية تشكل رادعاً، وسورية هي التي كانت تشكل القوات الرادعة في كثير من مفاصل التاريخ الحديث..!
أليس غريباً؟
أليس مؤلماً؟
بلى ولكن هناك ما يفوق هذا، ويؤلم فوق مقدار الألم، وهو أن تجد حقداً بين من ينظر إليهم على أنهم طرف واحد، فمن بقي مقاوماً ومتشبثاً وراضياً في سورية يفترض أن يكون مع أخيه على قلب واحد، فهذا المسؤول لرعايتي وحمايتي، وذاك لخدمة مصلحة الوطن، وثالث لإعادة البناء واللحمة الوطنية التي اهتزت، وإن كان الإنسان قادراً على الاحتمال والاستيعاب لكل القضايا السابقة ما بين داخل وخارج، وما بين من اختار الوقوف مع الآخر ضد بلده، مهما كان الأمر في بلده، فإنه غير قادر على استيعاب ما يجري على أرض الواقع والداخل، وهو ما يزيد الطين بلة ويعقد الأمر فوق ما يمكن أن يكون قابلاً للحل، ويوسّع من رقعة الفساد التي تجعل الأمر غير قابل للحل في المدى المنظور.
فهذا مسؤول لا يرى الحق إلا في جواره!
وهذا آخر لا يتنفس اليقين إلا من أنفه!
وهذا، ولا صفة له، أزلامه فقط من ينالون الاحترام!
إن ما كان متوقعاً من الجميع التكاتف لمواجهة الأخطار المحدقة القادمة، لكن كم الكره والحقد الذي يمشي على قدميه فوق ما يمكن:
الإنسان العادي لم يعد فطرياً ومحباً، بل صار ينظر إلى الآخر بحقد، وصار يصنف، هذا مع، وهذا ضد، هذا مثلي، وذاك خصمي، وصار يكشف ما لا يمكن توقعه، وينتبه إلى تفاصيل لم تكن في حسبانه.
المثقفون! من يجد المجتمع فيهم ثقافة، أو من يجد هو من تلقاء نفسه أنه مثقف، وفي الداخل، صاروا يصنفون بعضهم، وأزعم يقيناً أنه ما من مثقف يحب الآخر، فأنا أمام لوحة من المثقفين تتعدد وجوهها بتعدد المثقفين، لو سلمنا بتصنيف أن من خرج ليس مع الدولة أو مع الحكومة أو ما شئت، فإنه من المفترض أن من بقي منهم تجمعهم قواسم مشتركة إضافة للثقافة والفكر حول ثوابت أبقتهم، والاختلافات على وجهات النظر لا غير، لكن المشهد يختلف تماماً عما يمكن أن نتخيل، ولو تهيأ لأي شخص أن يسمع ويجمع ما يسمع فسيكتشف أن المسافة أبعد مما هي بين الداخل والخارج، ولم نستفد من موت من مات، واستشهاد من استشهد، وألم من تألم..!
الإعلاميون، وأقترب من المشهد أكثر، ما من أحد يشهد للآخر بأي فضيلة، وكل إعلامي لم يتم اختياره للزعامة، الآخرون من وجهة نظره ليسوا جيدين، وليسوا أكفاء! والذي تمّ اختياره يخرج بانطباعه السابق أو السالف، ليقصي ويفعل ويتفرد، وتعود الآلة إلى عزف معزوفة مكرورة، بل مهترئة جداً، وهنا يصبح الإصلاح صعباً ومعقداً مع عدم إمكانية أن يضم المشهد الجميع الذين يتشاركون مساحات الألم المشتركة.
العلماء ورجال الدين، وأقترب من الروح أكثر، لأجد أن الروح مشظاة، وأن الخرق اتسع على الراقع، وأن المشكلات أصبحت طامة ومن الصعب تجاوزها، فرجال الدين والعلماء، ينتمون إلى عالم الروح، كما هو مفترض، وأن الدنيا آخر همومهم، وأن المواقع ليست في حسبانهم، لتفاجأ بالمواكب التي ترافق كل واحد منهم، وكأنهم ملوك، وبكمية الأنا التي ترتفع على كل تصور، أليس من المفترض أن يكون هؤلاء، وجميعهم نعت بأنه مع الدولة ومع الداخل، أن يكونوا حزمة واحدة في مواجهة الصعاب، وفي رفع سوية الدولة والحكومة في الداخل؟ ألا يكفي من تناحر بينهم وبين من هم خارج البلاد والحدود؟! لا يوجد من خلاف فكري بين كل جماعة وأخرى، ولكن هذه تصف تلك، والثانية تخرج الأولى عن الصراط، وثالثة لا ترى الاثنتين، وهكذا تستمر سبحة الصراع، ومن أجل لا شيء، وكل واحد منهم يقوم بتسخير الآخرين لا للدفاع عن سورية، بل لمهاجمة شريكه في الهم والاتهام! فهذا لا علاقة له بشيء يصبح عالماً بالدين، ويقدم النصائح، ويقوّم الأشخاص، وكل ذلك إرضاء لصديق، وآخر يصبح عالماً بالشرائع والدين، وهو لا يقيم جملة واحدة من القول الشرعي، وهكذا تستمر السبحة، ويستمر الصراع.
إن كان هؤلاء يحبون الله والآخرة فسبيله الحب والتسامح والتكاتف، وإلا فليس من حق أحد أن يدعو إلى مراجعة مؤسسة دينية روحية إسلامية أو مسيحية قائمة على المصلحة والضغائن والدنيا.
يبدو أن الغرب أخذها من نهايتها حين صنع المؤسسة الروحية المستقلة، وما شهدته المنطقة العربية من عشوائية غريبة يشهد بذلك، فالغرائز يستثيرها شخص، والمشكلات يقدمها آخر، والمواعظ تصدر عن آخر، وثقافة البساطة والانجرار وراء نص، قد لا يكون موجوداً، هي التي تحكمنا..!
في كل دائرة، وفي كل مؤسسة نجد هذا الحقد والكره، فهل من سبيل للخلاص منه؟ أم إن مصالح الأشخاص فوق مصالح الدول؟ كلنا راحلون، وتبقى المبادئ بهارات الحياة، والناموس لا ينتهي..