اقتصاد

«بلوك» غاز

| علي محمود هاشم

يسهل الركون إلى الاندفاعة «الإسرائيلية» نحو «البلوك 9» الغازي اللبناني كمحاولة اعتيادية للسطو على ثروات الغير، ورغم ذلك، فلا يقلل الأمر من محاكاتها رفع الغطاء عن إحدى فوهات آبار الصراع الطاقوي المحتدم شرق المتوسط، وأنابيبه.
في تسخينه المستجد لملف الطاقة، استلهم الكيان الإسرائيلي الجدل القابل للاستخدام في فضاء جغرافي متقافز منذ احتلال فلسطين، وإلى جانب ما تضيفه البنود المعقدة لقوانين البحار، خيّل لحكومة الاحتلال أن التلاعب بالخط الأممي الأزرق جنوبا، قد يشيع ضبابا كافيا لخلط الأوراق الطاقوية الآيلة للانتظام في سياق تفاهمات المنتصرين شرقاً.
في الطبقة الأولى من الأهداف الصهيونية، تتمظهر تطلعات الكيان المريرة للحدّ من الاندفاعة السورية اللبنانية المتأخرة بفعل التآمر الغربي، لاستثمار ثرواتهما الغازية البحرية مستفيدين من تفاهمات معقدة نسجتها روسيا مع أحد الجناحين الغربيين المهيمنين على شطآن الأطلسي.. الحفر أعمق في الأهداف، يكشف عن أحدث خيبات الكيان ومراحيضه العمومية في الخليج العربي، من مآلات معركة الطاقة التي يخوضونها بمعية الجناح الغربي الآخر.
المعادلات الداهمة لقناطر الطاقة البديلة شرق المتوسط، كانت تفاقمت إثر النجاح الروسي مطلع القرن الحالي بوضع سلسلة من إشارات الـ«بلوك» أمام النسخة الأولى من أنابيب «نابوكو» التي استمات الغرب لإنشائها وصلا لمكامن بحر قزوين بدول أوروبا، لينجح تالياً، وعبر سلسلة غاية في التعقيد من التحالفات العسكرية والدبلوماسية، بإضافة «بلوك» أخرى على طرق الإمداد البديلة من الخليج مرورا بالجغرافية «السورية العراقية» فالتركية.
مؤخرا، ومع وأد الجيشين السوري والعراقي وحلفائهما الأحلام الغربية باجتزاء ممرات جغرافية لتمرير الغاز الخليجي نحو أوروبا في سياق المعركة الغربية ضد نفوذ الغاز الروسي في أسواقها، انطلقت سلسلة بدائل اضطرارية متصورة لمساراتها، في إحداها، ذهب صهاينة الغرب ومن أمامهم مراحيضهم المنتشرة في الخليج، إلى شق طريق إسعافية بمسمى «السيل الأبيض» لدفق الغاز الإسرائيلي والخليجي والمصري، كخصم للروسي، عبر محطات تجميع لوجستية تنطلق من حيفا نحو قبرص، اليونان وإيطاليا، فبقية أوروبا.
الطبيعة المستعجلة لمسارات «السيل الأبيض»، اصطدمت بنكول قطري أعقب عملية «التسييل» الروسي اللافت لبوصلة الإمارة بعد استدراجها، ومن خلفها، إلى شراكات عميقة تم تمريرها عبر قنوات «روس نفط» عملاق الطاقة العالمي، كما اصطدمت بفشل الحرب التي شنّها مرحاضا أبي ظبي والرياض على اليمن الذي تكتنز حدوده المشتركة مع سلطنة عمان شرقا والسعودية شمالا، القسم الأكبر من الثروات الغازية جنوب الربع الخالي.
سلطنة عُمان التي ترزح تحت شعور عميق بالغبن الصامت، كانت قد أُخرجت مبكرا من لعبة الحقول الغازية إثر لعبة شيطانية مررتها الشركات البريطانية بالتآمر مع النظام السعودي، نجم عنها ترسيم لصوصي لحدودها وسرقة موصوفة لغازها.. أما اليمن الذي كان العرق (الإسرائيلي/ السعودي/ أبو ظبي) لنهب ثرواته الغازية كليا، فقد ألقم بصموده شره المشاريع الطاقوية للأمن، مزيدا من المخاطر، ووفق تسلسل الفشل هذا، وعلى غرار التفريغ الروسي لجدوى لعبة «نابوكو» الغربية المتجددة مع غاز البلطيق ومن ثم مع بدائلها شرق المتوسط، نجح اليمن، بطريقة أخرى، في إفراغ أنابيب «السيل الأبيض» الإسرائيلية من إمداداتها المرتجاة في الربع الخالي.
الغاز المصري الذي أضاف حقل «ظهر» البحري أبعاداً جديدة لحضوره في لعبة الطاقة، وعقب سلسلة من الإغراءات والتهديدات الإسرائيلية/السعودية الخبيثة لزج مكتشفاته الجديدة في أنابيب «السيل الأبيض»، برزت سلسلة مقابلة من التفاهمات الروسية المصرية كـ «بلوك» صدّ كلله استحواذ «روس نفط» على حصة مناسبة من «إيني» الإيطالية صاحبة الامتياز والاكتشاف في «ظهر»، وبالفعل، لم تتأخر مصر عن الانسلال من معادلة «السيل الأبيض» والاكتفاء بتوجيه المكتشفات الجديدة نحو الاستهلاك المحلي، لتبلغ أحلام «المراحيض» الإسرائيلية السعودية منتهاها مجدداً.
وفق هذه السلسلة المتراكمة من الفشل، يرزح الغاز الإسرائيلي/السعودي اليوم تحت ضغط الفشل، وما المعركة القصيرة التي خاضتها الكيان على تخوم «البلوك 9» اللبناني، سوى انعكاس فرويدي لما يساوره من يأس حيال زحزحة المعادلات الطاقوية الآخذة بالتجذر شرق المتوسط، بما فيها التحالف «الروسي/ الفرنسي/ الإيطالي» في لبنان!!.. سبق الحرتقة الإسرائيلية الفاشلة هذه أخرى سعودية -مكافئة بالحماقة- مثّلتها محاولة اختطاف رئيس وزراء لبنان بعدما استدعته المملكة على عجل من جلسة إسناد عقود استخراج الغاز اللبناني إلى شركات «نوفاتك، توتال، إيني»، قبل أن تنتهي خطوتها البائسة هذه، بانتزاعه -فرنسيا- من فكها «الملكي» الكبير، والمضي في اللعبة وكأن شيئاً لم يكن.
لا يبني المرء قناطر الغاز ما لم تتوافر موارد مضمونة لضخها، هذه البدهية يمكن استلهامها للتيقن من أن أنابيب «السيل الأبيض» قد دفنت جنينا خرائطيا في مياه المتوسط، وأن التواطؤ الخليجي لبيع القدس ضمن «صفقة قرن» تستدعي التطبيع الخليجي «الإسرائيلي»، كشرط موضوعي لتمرير أنابيب الغاز، كان مجانيا بالكامل!

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن