معرض «ليل العالم» مجموعة من العوالم الغامضة … الجوابرة لـ«الوطن»: قمت ببناء العمل من بعد تحطيم عناصره لأقدمه مختلفاً عن ذهنية المشاهد
| سوسن صيداوي
أزمات وانكسارات متكررة. أبيض وأسود، خير وشر، حب وكراهية، شبع وجوع، صور كثيرة موجودة من الماضي السحيق، صورّتها الحضارات والأساطير عبر رموز شاهدناها، ولكن اليوم يأتي فنانونا التشكيليون كي يقدموها لنا بأسلوب جديد مختلف تماما في التقليدية التي عهدناها. في هذه الفترة افتتح الفنان التشكيلي محمود الجوابرة معرضه «ليل العالم» ضمن حضور كبير من المعنين والمختصين والمهتمين في صالة الآرت هاوس في دمشق. يضم المعرض مجموعتين: الأولى يمكن تسميتها «شاهد على العصر» وهي عشرة أعمال، والثانية «ليل العالم» وهي نتاج عمل أربع سنوات من عمر الأزمة، التي سكنت الفنان وانعكست عليه- بكل ما حملته- على كل الأعمال، ويبدو الأمر واضحاً للمشاهد من خلال اللون العاتم والطاغي على كل الألوان الموجودة في اللوحات.
توثيق الفن غير وارد
تحدث الفنان التشكيلي محمود الجوابرة عن أعماله وتجربته الفنية الجديدة التي جاءت من عمق معاناة عاشها منذ بداية الأزمة وخروجه من منزله الكائن في درعا، مسترسلا في ثقافات تعمّق بها، ومتأملا أساطير لحضارات نعرفها ولكن قدمها هو بمنظوره وفق طريقته الخاصة، قائلاً: «هذا المعرض هو نتاج لأربع أو خمس سنوات من عمر الأزمة، اشتبكت في هذه الفترة بثقافات عديدة، وبصراحة أرهقت بالتفكير في الثقافات والرموز المتعددة التي كنت مثقلا بها. وأنا من الأشخاص الذين سكنتهم الحرب طوال الفترة الماضية بكل أوجاعها وآثامها، وكوني فناناً فأنا أحاول وضع كل انفعالاتي ومشاعري وأحاسيسي تماما كما أرى الأزمة في سوادها وأوجاعها، والتي مازلنا ندفع ثمنها حتى هذه اللحظة، ومن ثم لم يكن بيدي أن أوثّق الفن، فهذا غير وارد لكوني لست موثّقا، بل جاءت تجربتي الجديدة وأعمالي مملوءة بـ«ليل العالم» أو بسواد العالم، وهي الحقيقة التي لا مفر منها، وبالطبع أنا مثل الكثيرين بانتظار النهار الذي سيمحو هذا الليل، لننطلق من جديد ولنشعل نار مجد وشموعاً قبل أن يغيب هذا الظلام. وبالعودة إلى المعرض الذي جاء تحت مسمى «ليل العالم»، نجد مجموعة من العوالم المؤلّفة، التي لا يعدّ الدخول إليها بالأمر الهين على المتلقي، فالأعمال ليست بصريحة ولا تبوح عن دواخلها ببساطة من دون أن يتعامل معها المتلقي بمحبة، وجاءت أفكار الأعمال من تداعيات أو استجابات عميقة في داخلي بسبب ما جرى طوال فترة الأزمة، هذه التناقضات الداخلية كانت محركا لنتاجي وعملي على اللوحات، الصراع سواء بين الأبيض والأسود وبين الخير والشر، وبين الليل والنهار، ولكن ما يجب أن ندركه حقا أن هذا الصراع محتدم منذ الأزل، وهذا ما تؤكده الكتب والمؤلفات القديمة التي تعود إلى آلاف السنين، ويمكن ملاحظته مثلا في ثقافة «أوفيد» وكتابه مسخ الكائنات، حيث كشف عن رؤيته وحسه القوي بالأزمات العديدة التي كانت تنتاب الإنسان وقدم لنا كل الكائنات البشرية والحيوانية بشكل ممسوخ، وبالنسبة لي أنا حاولت أن أدخل مسوخه ومسوخ الكاتب «كافكا» مستخدما إياها في كثير من الأعمال، كما يلاحظ الزائر للمعرض أنني أعدت بناء الأسطورة في بعض الأعمال مثلا كملحمة جلجامش، كما أنني عملت على عنصر «الثور» الذي يرمز له عند الأشوريين بالقوة والخصوبة، ولكن هذه الصفات لم أشعر بها، لهذا قمت بإعادة تأليف هذه الأسطورة وصورت «الثور» ككائن بهيمي جداً وفيه شيء من الوحشية، كما حمّلته شيئاً من النزعة الإنسانية حيث نجد قرون الثور مكسّرة وهو يقف مذهولا أمام الضحايا، وحتى جسّدت الصراع في قيم أخرى من الإنسان وعملت على الميثيولوجيا الدينية القديمة في بعض الأعمال من خلال لوحة الصلب ولوحة العشاء الأخير، حيث تناولتها وبنيت الميثيولوجيا بطريقتي الخاصة، إذاً الشيء الأساسي في كل ما قمت به أنني هدمت الصورة وأعدت بناء الخراب من جديد، وقمت بتشكيل العمل من خلال عناصره وليس بالطريقة التقليدية، وبالشكل الذي بذهن الكثير منا، لكن جاءت الأعمال متوافقة مع ما أفكر ومع ما أشعر وأحس به، وفي ختام حديثي أخلص إلى النتيجة التالية وهي أن المشاهد سيلحظ في أسفل اللوحات سيوفا مكسرة وقرونا مكسرة وهذا دلالة على الصراع الداخلي الذي ينتابنا، وما يعكسه من خلافات وصراعات أوصلتنا إلى هنا في هذه المرحلة من الأزمة، إذاً الصراع حاضر وموجود داخلنا نحن البشر منذ الأزل.
أساطير غير تقليدية
من جانبه افتتح المعرض معاون وزير الثقافة علي المبيض الذي تحدث عن جمالية الأعمال وخاصة أنها مستقاة من الأساطير قائلاً: «المعرض الذي جاءت تسميته «ليل العالم» يأتي ليؤكد جمالية التجربة الفنية للفنان، هذه التجربة التي استنبط مواضيعها من خلال الأساطير القديمة، ولكن في رؤية فنان مبدع، وفي الحقيقة هذه فكرة جميلة جداً لأن الفنان استقى مواضيعه من أساطير، وخاصة أن مفهوم ونظرة كل واحد منها تختلفان عند الآخر، وأيضاً زاوية الرؤية تختلف من شخص إلى آخر. والمعرض جميل وهذا يؤكد أن الفن بالعموم هو وسيلة راقية لإيصال الرسالة، ونحن كوزارة الثقافة ندعم هذه الفنون من خلال إقامة المعارض ورعايتها من جهة، ومن جهة أخرى كي نؤكد أن سورية تمتلك مخزوناً ثقافياً زاخراً وعريقاً ممتداً لآلاف السنين، ونحن نحاول أن نستند إلى هذا الموروث الثقافي كي ننطلق ونمتلك أشياءً أخرى وخاصة في هذا الوقت من الأزمة التي يشهد فيها الحراك الثقافي الكثير من التحديات والصعوبات، ومع ذلك فإنه ينهض متزامنا مع الانتصارات الكبيرة التي حققها الجيش العربي السوري».
الفن التشكيلي معافى
وقد لفت الدكتور إحسان العر إلى أن التجربة الفنية جاءت من مخزون خبرة جمعها الفنان من خلال تجاربه التي استمرت عشرات السنين، مشدداً على أن الفن التشكيلي على الرغم من الأزمة التي عانت سورية منها فهو فن معافى، متابعا «أنا أجد أن الفن التشكيلي معافى حتى في أثناء الحرب على سورية، فالفن التشكيلي لم ينقطع بالكامل، وبالنسبة إلى معرض الفنان جوابرة، فإن هذا المعرض استغرق منه عمل خمس سنوات تقريبا، واستطاع أن يحقق خلاله نقلة كبيرة جداً بين أعماله الحالية- التي قدمها في هذا المعرض- عن أعماله السابقة، وهذا من خلال موضوع إعادة تصوير الأسطورة ولكن برؤية خاصة به، والأعمال الحالية هي نتيجة لمخزون فكري وثقافي كبير للفنان ممتد لعشرات السنين، واليوم جسدها لنا بطريقة تشبه واقعنا».