إنغمار بيرغمان… عراب السينما السويدية … في سينماه حلاوة التوت البري وغموض ضوء الشتاء
| أحمد محمد السح
ترى النظرة الحديثة للحياة أن الأفعال والآراء المخالفة لآرائنا ما هي إلا انفتاح لأفقٍ جديد نحن بأمسّ الحاجة إليه، وعليه تتّزن مستقبلاتنا الحسية والنفسية مع شعورنا اليومي بحاجة تامةٍ للانطلاق إلى أفقٍ جديد وتظل السينما دائماً أكثر وضوحاً ووعداً بالإشراق. والاكتشاف مع كل فيلم تشاهده، فكما تفتح نوافذ الغرفة في الحر والصقيع لتستمد منه وجهة نظر لما سترتديه اليوم إن لم يكن لذلك أسباب أخرى تتعلق بالتهوية والصحة والنفس، تؤكد السينما أننا بحاجة إلى إغراق أنفسنا بالأفكار الجديدة والمختلفة التي تعصف بنا من كل جانب فهذه الفوضى الفكرية هي التي ستفرز الغث من الثمين وستعزز ثوابتا وتسقط آراء انفعالية اعتقدنا سابقا أنها مبادئ لا يمكن التنازل عنها، ومسلّمات لن تكتمل عملية الشهيق والزفير الخاصة بنا من دونها. هذا العصف الفكري يشتغل عليه الكثير من السينمائيين لكن بعضهم تطغى حالتهم الفكرية على رؤيتهم البصرية على حين تتداخل عند الآخرين.
تبدو هذه المقدمة متشابهة مع طريقة تفكير المخرج السويدي إنغمار بيرغمان، الذي غادر هذه الحياة عام 2007 بعد أن عاش قرابة تسعين عاماً قدم خلالها خمسين فيلماً أسس لسينما خاصة منحت السينما السويدية بصمتها، التي طبعت سينما دول شمال أوروبا كاملةً، بما فيها من بطء لحركة الكاميرا، واعتماد التحليل النفسي للشخصيات، لا اعتماد الدراما والفعل الدرامي والأحداث كأساس تستند إليه أفلامه، حين تشاهد فيلماً لإنغمار بيرغمان عليك أن تتجهز لأفلام تعتمد لقطات مقربة إلى وجوه الممثلين، وحواراتهم القليلة والمفاجئة، ليس أمامك سوى أداء ممثلين يأخذون شخصياتهم في أبعادها النفسية، مقتنعين بها متكئين على رهافة مخرج كبير استطاع أن يقدم نجوماً وممثلين للعالم كله من أمثال أنغريد بيرغمان وكاترين أدونوف وليف أولمان. هذا الرجل الذي ولد حسب سيرته في بيئة متزمتة كان قد تعرّف على المسرح للمرة الأولى وهو بعد في الخامسة من عمره، عندما شاهد إحدى مسرحيات الكاتب السويدي الكبير سترنبرغ. وفي التاسعة من عمره، صنع بيرغمان لنفسه خشبة مسرح صغيرة يتحكم بنفسه فيها أسفل المنضدة الموجودة في غرفة الألعاب. درس بيرغمان الأدب والرسم في جامعة ستوكهولم، وأثناء دراسته، قام بالإخراج والتمثيل في مسرح الجامعة، ثم التحق عقب تخرّجه بالعمل في مسرح ستوكهولم كمخرج تحت التمرين. وكتب خلال تلك الفترة بعض المسرحيات والروايات والقصص القصيرة، لكنه لم يتمكن قط من إنتاج مسرحياته أو نشر قصصه ورواياته. وتعد الإحاطة بخمسين فيلماً أمراً غاية في الصعوبة لذا ستكون المحاولة للمرور على خمسة أفلام لهذا المخرج اعتبرت من بين أفلامه المهمة.
ففي فيلمه الختم السابع عام 1957 توقّف بيرغمان أمام مسألة الموت ولعب معه الشطرنج، دخل في صيغة مواربة مع العودة من أفكار الصليبيين وفشلهم التاريخي وإحساس شخصيته أنها عادت في هذه اللعبة التاريخية، ليدخل في عالم السيرك الذي تلعب فيه شخصياته لعبتها الحياتية الهاربة من الموت، الذي يطاردها من خلال الشرط الذي تغلّب فيه البطل على الموت حين تشارطا حول أمرٍ وكسب البطل الرهان، على حين تغرق البلاد في مرض الطاعون.
في فيلمه القناع Persona 1966 دخل المخرج وسط جلجلة من التحليل النفسي مع اعتماده على موسيقا ناشزة، إلى حكاية إليزابيت فولجنر (شخصية الفيلم) وهي ممثلة ممتنعة عن الكلام أعيت الطاقم الطبي إلى أن تتولى ممرضة مهمة الاعتناء بها وتدخل في تحدٍّ مع الطاقم الطبي لشفائها، لنصل إلى مرحلة من التقابل بين الشخصيتين تكون إحداهما وجهاً للأخرى تكشف كل منهما أسرارها من خلال سلوك رفيقتها ومعطياتها الشخصية والحياتية، فهما متشابهتان ومتناقضتان لديهما السادية نفسها والعشق نفسه، ومن خلال التحليل والعودة إلى الذاكرة تتضح الأسباب الجنسية والعاطفية التي دفعت كل منهما إلى سلوكها الحالي.
في فيلمه التوت البري wild strawberries 1957 الفيلم الأكثر شهرة له يدخل بيرغمان في رؤية النسوتالجيا ليفهم آلية تفكير العجائز من خلال شخصية طبيب متقاعد يراد تكريمه، ليدخل هذا العجوز في رحلة ذاكرة بطريقة الخطف خلفاً ليصل إلى تحليل في العلاقات الأسرية التي كانت تعيسة بين والديه وتكررت معه في زواجه، وتتبلور بشكل أعمق من خلال رواية كنّته زوجة ابنه لتعقيد العلاقة مع زوجها ورفض الابن للإنجاب حيث تتفاقم التعاسة مع نقصات الحب الذي حرم منه هو، وتبين من خلال زيارته لوالدته العجوز حيث ترافقه كنّته، ويلتقي مع غرباء يفيد حضورهم سياق الحكاية ويكشف هشاشة ما تخفيه النفس البشرية من عذابات.
فيلم صياح وهمس، Cries and whispers 1972 الذي يعد أبسط من غيره من بين أفلام المخرج بالنسبة للمتابع العادي، لكنه يناقش بجرأة وبتفاصيل نفسية تستند إلى مفاهيم فرويدية عن علاقة الرغبة الجنسية وارتباطها بالحرمان العاطفي في الطفولة عبر حكايات ثلاث شقيقات عانين تفرقة عاطفية من خلال والدتهما، وحين تصل إحداهن إلى فراش الموت تسعى إلى كشف تفاصيل الخيانة والغواية التي عاشتها في حياتها وما تشاركنه الأخوات وما أخفينه عن بعضهن.
فيلم ضوء الشتاء winter Light 1963 في هذا الفيلم يناقش بيرغمان علاقة الإيمان المضطربة لكاهن مسيحي، ويذكر في حوارات جريئة في وقتها بعض التساؤلات التي تميل إلى الشكوك في بعض القضايا التي تعتبر أساسية في الدين المسيحي، لكن بيرغمان تختلط المشاهد عنده ويرتكز على متانة الحوار كما أنه يعتمد على الإطالة في بعض المشاهد التي يريد طرح قضيته الأساسية من خلالها أو المرور على شخصيات فيلمه أثناءها، كما في مشهد الصلاة الكنسية في هذا الفيلم حيث يستغرق مشهد الصلاة ما يزيد على عشر دقائق لفيلم طوله نحو مئة دقيقة، مستخدماً هذا المشهد للمرور على وجوه الأبطال ورصد سلوكهم أثناء الصلاة وبعدها.
لا تعتبر أفلام بيرغمان أفلاماً عالية الجماهيرية، لا بل تعد من الأفلام التي قد تثير الملل لشريحة كبيرة من الجمهور، ولكنها أفلام تصنف أكاديمية، يعتمد فيها على الطرح الفكري، على الإنسان بشكل أساسي، وعلى سلوكه، وتعبيراته السلوكية وفقاً لتحليلات نفسية أو اجتماعية أو دينية، وقد صبغت سينماه السينما السويدية قليلة الشهرة حتى يومنا هذا، كما أن هذه الصبغة مازالت مسيطرة على معظم السينمائيين الأوروبيين في دول الشمال الأوروبي الباردة.