يريدونها دولة يهودية
| يوسف جاد الحق
فكرة الاستيلاء على فلسطين، وتهويدها بالكامل ليست بالأمر الجديد، لقد كان هذا مطمحاً يهودياً صهيونياً منذ القديم ولم يزل، ولكن تحت مسميات عديدة عرفت بـ«المسألة اليهودية» ذهب إلى الخوض فيها بل إلى تبنيها، قادة كثر أمثال نابليون بونابرت، وفلاديمير لينين، وأدولف هتلر وغيرهم، كل حسب رؤيته، ولأسباب تخصه وتقتضيها مصالحه أو معتقداته، وطنية كانت أو سياسية أو أيديولوجية.
مسألة التهويد هذه دعامتها الأولى، وسندها القوي عندهم معتقد نوراني باطل يزعم بأن فلسطين هي «الأرض الموعودة» من إله خاص بهم يسمونه «يهوه».
لن نذهب إلى الخوض في المسألة الأيديولوجية هذه، ذلك أن الفكرة الصهيونية الحديثة، التي تبلورت ووضعت قيد العمل والتنفيذ لتحقيقها جاءت مع أواخر القرن التاسع عشر مع جماعة ترأسها المدعو تيودور هرتسل، وأصدر هذا الأخير كتاباً عام 1897 بعنوان واضح الهدف، ظاهر القصد هو «الدولة اليهودية».
من ثم فإن ما تروج له اليوم وسائل الإعلام والتواصل حول مسألة تهويد «دولة إسرائيل» ليس جديداً ألبتة، غير أن قادتهم، وعلى رأسهم مجرمهم الأكبر بنيامين نتنياهو، يحاولون اليوم فرضها كأمر واقع على فلسطين والفلسطينيين ممثلين، زوراً وبهتاناً، في شخص رئيس السلطة الفلسطينية، المساير لهم على نحو مثير للدهشة والعجب، والخيبة أيضاً، المستجيب لمطالبهم أياً ما تكن، إرضاءً لهم واتقاءً لشرهم، وربما تنسيقاً معهم، عن قصد وليس عن جهل أبداً.
لقد أخذ الرجل على عاتقه «تمرير» هذه المسألة ضمن خطبه وحواراته بقوله «ليعلنوها دولة يهودية.. إحنا مالنا..)! تمريرات من هذا القبيل ليست مجرد كلمات عابرة، إنما هي محصلة تدابير يتفق عليها في كواليس الغرف المغلقة، لكي تغدو مع التكرار والتداول، أمراً معتاداً وطبيعياً في الأذهان، بحيث لا تفاجئ أحداً عند وضعها قيد التنفيذ.
إن المنادين بيهودية «الدولة» أمثال شمعون بيريز وأفيغدور ليبرمان ونتنياهو وغيرهم من قياداتهم، لا علاقة لهم بتوراة موسى عليه السلام، ذلك أن جلَّ هؤلاء «لا دينيين»، وليس لأي منهم اهتمام بدين، أي دين، وممارستهم الفعلية تنطق بذلك، هي مسألة سياسة عنصرية بحتة ليس أكثر، والتلمود هو شريعتهم الفعلية، لا يختلف في منحاه العنصري عن كتب تماثله، ككتاب كفاحي لهتلر، وكتاب بروتوكولات حكماء صهيون وكتاب الأمير لميكيافيلي، ويقول بهذا علماء وفلاسفة غربيون أمثال روجيه غارودي في كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» وغيره.
لكيلا نستفيض في هذا الشأن نخلص إلى الإجابة، عن سؤالنا الأول فيما يتعلق بالأهداف الحقيقية التي يرمون إليها في سعيهم لتهويد «دولتهم» حتى بعد أن تحقق لهم ما هو أكثر بكثير مما كانوا يحلمون به في البدايات وكأنه لم يكفهم ذلك، من تلك الأهداف:
– تثبيت مزاعمهم القائلة بأنها «أرض الميعاد» التاريخية، وبهذا الزعم، يمسي الفلسطينيون هم المغتصبين لأرض الميعاد، وأن وجودهم فيها كان باطلاً منذ ألفي سنة، ومن ثم لا ذنب لبني إسرائيل المعاصرين في طرد الأحفاد أي فلسطينيي اليوم وتشريدهم وقتلهم، وهذا ما تقترحه «الشريعة التلمودية» التي هي من وضع حاخاماتهم القدامى! وهكذا تنقلب الآية فتغدو الضحية المجني عليها هي الجانية!
– الهيمنة الإسرائيلية اليهودية على سائر المنطقة العربية، إضافة إلى إيران وباكستان وأفغانستان أيضاً، بعد أن تقسم هذه البلاد على أسس دينية وطائفية وعرقية، بحيث يمسي هذا مع الزمن وضعاً طبيعياً مقبولاً ومألوفاً في الإقليم، ومن المعروف أن ذلك ما خُطط له منذ عقود بتدبير مع المنظرين الأميركيين، ولاسيما جماعة المحافظين الجدد، أمثال برنارد لويس وريتشارد بيرل وبول ولفنز وآخرين.
– تفريغ الأرض الفلسطينية، بالكامل من أهلها العرب، مسلمين ومسيحيين وغيرهم، أي سائر المكونات والانتماءات غير اليهودية، لكي تغدو دولتهم «نقية»، خالية من «الشوائب»، على حد تعبير أحد حاخاماتهم، فيا لسخرية القدر، حثالات البشر هذه آراؤهم فيمن أحسن إليهم بالحماية على مر التاريخ.
– تبعاً لهذا، فلسوف يسعى هؤلاء، عندما تتحقق لهم مسألة التهويد هذه، إلى الاستيلاء على الضفة الغربية بوصفها «يهودا والسامرة» عندهم، وتوطئة لذلك فقد زرعوا في أراضي الضفة من المستوطنات ما أوشك أن يغطي سائرها، ولن تعجزهم الحيلة ولا الوسيلة، حينئذٍ لإخراج سائر من فيها من السكان ما داموا ليسوا يهوداً.
– هذه «دولة لليهود دون غيرهم» سيقولون، أما تلك الدول الضالعة معهم فلن يسعها غير القبول بذلك خلافاً لما تدعيه من حكايات عن حقوق الإنسان وحريات تقرير المصير، وما إلى ذلك من أقوال لا مكان لها على أرض الواقع العربي، ولسوف يتيح لهم ذلك، ما يتسم به الجانب العربي من ضعف وتفكك وتنازع وعماء في رؤية البصر والبصيرة، وغياب شبه كامل عن حقائق مسارات التاريخ البشري.
– شطب حق العودة الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة بقرارها رقم 194 عام 1948، والذي لم ينفذ، شأنه شأن سائر القرارات التي صدرت لمصلحة الفلسطينيين، ويصبح هذا الإلغاء عندئذٍ من باب تحصيل الحاصل، فالتهويد الذي لن يسمح ببقاء العرب الموجودين فيها حتى الآن هو من باب أولى لن يسمح لعرب يقدمون إليها مستقبلاً تحت أي مسمى.
– سوف تتدفق جموع من يهود العالم إلى فلسطيننا تحت عنوان مضلل هو «العائدون الجدد» من أجل زيادة العنصر البشري فيها، الأمر الذي عانوا نقصه في الجانب الديمغرافي حتى الآن.
– من الأهداف التي يطمحون إليها الوصول إلى ما يسمونه «الدولة اليهودية العالمية»، وهذا ليس من قبيل الاستنتاج أو التخرص أو الإرهاص أو التجني من جانبنا، لكنه ورد كواحد من بنود «بروتوكولات حكماء صهيون» إياها، وهو مطلب تهدف إليه وتعمل عليه «اليهودية العالمية» على المدى البعيد في نهاية المطاف، وهم يرون أن هذا ممكن التحقق عن طريق إيصالهم رئيساً صهيونياً للولايات المتحدة، ومن ثم يصلون إلى التحكم في مفاتيح السياسة العالمية، وها هي البداية متمثلة في رئيس أميركا الحالي دونالد ترامب.
إن فكرة «يهودية الدولة الإسرائيلية» تنطوي على قدر من المخاطر الهائلة المتربصة بالقضية الفلسطينية خاصة، والأمة العربية عامة، ما قد يصعب تصوره لدى الكثير من الساسة والمثقفين العرب والفلسطينيين للأسف.
وإذا كان هناك من أسباب تطمئننا بألا يحدث ذلك فإنها تتمثل في ناحيتين اثنتين:
أولاهما: حلف المقاومة المتمثل في سورية وإيران وفلسطين الانتفاضة والمقاومة اللبنانية، وبتصديه للمخططات الصهيونية بكل ما أوتي من قدرات وإمكانات، كما كان عليه الحال الآن وسيظل كذلك.
ثانيهما: المتغيرات الدولية الهائلة التي تجري اليوم، على صعيد العالم كله، ولعل أهمها تراجع الولايات المتحدة عن مركز الدولة الأهم في عالم اليوم، وتصاعد الدور الروسي الصيني ودول البريكس وغيرها من أحرار العالم، الذين أضحوا على معرفة بما هي حقيقة العصابات الصهيونية من جهة، وما أوقعه الصهاينة والمتواطئون معهم بشعب فلسطين من أذى وإجحاف وإجرام على مدى قرن كامل أو يزيد.