كنوز منسية.. تراثنا الساحلي الريفي … كنوز معرفة وتراث أجداد وأقوال نحيا بها ولها
| سارة سلامة
تراثنا هو ذهبنا وحاضرنا وماضينا وكما يقول المثل:( اللي مالو قديم مالو جديد)، ويتميز التراث في الساحل السوري بالغنى بكل ما فيه من عادات وتقاليد وإرث كبير تركه لنا الأجداد ويتوارثه إلى الآن الأبناء، هذه الحياة البسيطة والجميلة جعلت من الكاتبة والباحثة فريال سليمة الشويكي أن توجه اهتمامها إلى دراسة هذا الإرث الكبير وتوثقه في مجلد ليبقى خالداً للأجيال القادمة تحت عنوان: (كنوز منسية- تراثنا الساحلي الريفي)، صدر حديثاً عن وزارة الثقافة- الهيئة السورية للكتاب- مديرية التراث الشعبي، والكتاب ضمّ خمسة عشر باباً وفي كل باب عدة فصول، واستهلت الشويكي كتابها بإهداء خصته إلى زوجها الدكتور محمد زياد الشويكي.
لتبقى في ذاكرة الأجيال
وتقول الشويكي في مقدمة الكتاب: «حين تعبر مخيلتنا جدار الزمن الذي كان، وتطل على عالم بَعد وغاب، وتجول في ما مضى وآل إلى النسيان، تمتد اليد برفق، وجلال، تزيح تراكمات الأيام عن تربة الماضي الصامت، الذي يخبئ أسرار الأجداد، ويعانق أحلامهم الماضية، ويتبادر إلى الذهن سؤال:
أما آن لذكرى أولئك الأجداد أن تنال بعض الاهتمام؟ وتحفظ لتبقى حية في ذاكرة الأجيال القادمة؟ أولئك الأجداد، والآباء، ومن سبقوهم، من الذين شغلهم كفاحهم في سبيل الحياة ومعاناتهم من ثقل الأحداث التي مرت بهم، وظلم المستعمر الذي سلبهم حقوقهم، أمور حالت دون تخليد ذكراهم، أو تسجيل كنوز معارفهم، أو محاولة حفظ صورة حية لتلك الحياة الغنية التي عاشوها مع فقر زمانها.
كنوز ومعارف لا تحصى يخبو بريقها، ويعلوها الغبار، وتبعد صورتها، كلما طلعت الشمس، وغابت بغيابهم، أولئك المعلمون الأوائل الذين كانت مدرستهم الطبيعة، ومنهجهم الأخلاق الحميدة، وشعارهم الكد والعمل من أجل العيش ضمن دائرة الكرامة، وتحت لواء الكسب الشريف، وليس حباً في امتلاك الدنيا التي تأبى أن تملك أحداً.
وتتابع الشويكي : «في هذا الكتاب لا أستطيع حصر الموضوعات التي ستدرج بدقة وتفصيل، لأنها متداخلة كما يتداخل شاطئ البحر بين الجبال وسفوح الصنوبر، لتشكل صورة لساحلنا يصعب فصلها عن بعضها، ومع جهدي في جمع أكبر قدر من صور تلك الحياة لإبرازها إلى الوجود، في كتابي الأول والثاني، لا أستطيع مع هذا أن أقول إنني وفيت التراث حقه، ربما أمضيت بقية عمري، أبحث مثل كل العاملين في مجال الآثار، عن كنوز معرفة جديدة، ضائعة، مخبأة يلزمها مخلصون مهتمون لإبرازها إلى الوجود».
تؤرخ لحظات الزمان
ترصد المؤلفة الحياة الريفية البسيطة وكيفية عيشها وتقول: «اتقاء للانتقام، هجرت الأسرة المنزل الكبير، منزل الضيوف الفقراء، منزل من لا مكان له، يحلّ فيه التحالف حتى يشعر بالأمان، والضعيف حتى يشعر بالقوة.
منزل السهرات البسيطة الغنية، تتحلق الأسرة وضيوفها حول محسن، يقرأ من قصة عنترة كل يوم شيئاً جديداً، يجعل الليل حكاية ملونة، وسيرة حب مشوقة، وقصة بطولة نادرة، تغفو الأسرة على وسادة الحلم الأخضر، أشعار عنترة تحفظ كصلاة يرنمها كل فرد على هواه، تردد، تغنّى، تؤرخ لحظات الزمان من سرور ومعاناة.
صورة حياة يتشابه فيها أبناء الريف الساحلي، ينثرون على بساط السهرة بذور أمنياتهم، لعلها تنبت في غدهم، وتثمر في المقبل من أيامهم، كما أثمرت تلك الثقافة التي ورثوها عن أجدادهم، فكانت بحق أحد أعمدة حياتهم المرتبطة بالأرض، ودليلهم الموثوق للتعامل معها في كل فصول السنة، سفر شفوي يزخر بالمعلومات، المقولات والأمثال، يصف البحر، الجو، الأيام، القمر، والنجوم، والطقوس التي تحمي الحيوانات والمزروعات، ويذكر أحوال الناس في ظل المستعمر والإقطاع والحروب المهلكة، والجائحات المرضية الفتاكة، التي كان دواؤها الأعشاب والرقى، والإيمان بما كتبه الله، وبما رددته الأغاني الحزينة والعاطفية من زهور الكلام».
الأيام ومدلولاتها
نجد الكثير من المصطلحات والكلمات التي قيلت في ذاك الزمان وهي إلى اليوم تقريباً قد اندثرت، الكاتبة توثقها قائلةً: «في هذا الكتاب نحن بمعرض تدوين التراث بصدق ونجد أنفسنا ملزمين بتقديمه كما هو، وبالصيغة التي توارثناها عن أجدادنا، وليس علينا أن نتخذه كما اتخذوه بحال من الأحوال، وعن الأيام وما هو مستحب نورد أقوالاً متوارثة تقول: (يوم السبت يوم مكر وخديعة، والأحد غرس وبناء، والإثنين يوم سفر وطلب رزق، والثلاثاء يوم حرب وبأس، والأربعاء يوم لا أخذ فيه ولا عطاء، والخميس يوم دخول على السلطان وطلب الحوائج، والجمعة يوم خطبة ونكاح).
وأما ما يجري على لسان الناس في الريف، وما اعتادوا أن يرددوه عن الأيام فيقول:
السبت: (نَبت)، بمعنى أنه يصلح للزرع، وهو قول مجهول السبب.
الأحد: (لَحد)، بمعنى أن من يقوم بمشروع ما ينتهي إلى اللحد، يوضع في اللحد، وهذا ضرب من الإحباط للإنسان.
الإثنين: (من تودعه الإثنين تراه بالوفاة الإثنين)، بمعنى أنه نهار مشؤوم كما يكره الاستحمام والغسل يوم الإثنين وكذلك بعضهم يردد: (إن العروس التي تتزوج الإثنين تعود من حيث أتت)، فالزواج فيه مكروه، لأن العروس إما أن تعود مطلقة أو يموت زوجها فترجع لأهلها.
كما يقال: (غسالة الإثنين غسيلها ما بينظف وحبيبها ما بيرجع).
الثلاثاء: (لا تفصّل الثياب، لأنه وراثة)، بمعنى أن صاحب الثوب الجديد يرث ماله الآخرون ويرددون (خياطة الثلاثا يا حريق يا غريق يا وراثة).
الأربعاء: أيضاً لا يقص الثوب فيه لأنه (حريق أو غريق)، وهو اعتقاد المتطيرين من الناس أيضاً.
الخميس: يقولون (فصّل لحبيبك قميصاً) فهذا اليوم يستحب فيه تفصيل الثياب على جري عادات من كان يأخذ بهذه الأقوال، كما أنهم يرددون: (إن قص الأظافر يوم الخميس والجمعة يورث الغنى وهي دعوة رائعة للنظافة).
الجمعة: (جماعة)، بمعنى أنها جماعة للمطر بإذن الله، كما يردد البعض، والسبت (لماعة، والأحد يا بتحد يا بتمد)، وكلمة لماعة إشارة إلى البرق الذي يسبق المطر، ولكل إنسان مقولة يرددها في هذا المجال.
وهذه الجمل المسجوعة التي وصفت بها الأيام، يتجلى لنا أنها اختصرت تجارب الناس في سيرة حياتهم وأوجزتها على شكل مقولات، تمثل بلا شك خلاصة ما تعلمه الإنسان بعد ملاحظة وكد وجهد على مر العصور، وتلك النتائج انتقلت من جيل إلى جيل، إنه التراث الذي يتضمن ما كان يتحكم بحياة الناس سواء من واقع أم أسطورة، وما يرتبط مع الزمان الذي مضى.
العين وتأثيرها في الأشخاص
ومن العادات والتقاليد التي ما زالت تستخدم حتى يومنا هذا (صب الرصاص)، وتذكر المؤلفة ذلك وتقول: «(النضرة): تسميتها في الساحل وهي في الحقيقة (النظرة) الحسد، أو الإصابة بالعين، وجاءت عادة تذويب الرصاص حين يكون الطفل بوعكة لا يعرف سببها، وأول ما يتبادر إلى الذهن أن الطفل أصابته عين حاسدة، وبما أن تقاليد الناس حيال هذه الأمور تختلف من مكان إلى مكان، مع وجود خطوط عريضة واضحة لكل عادة، يحيط بها عدد من الاختلافات، أو الإضافات كل حسب رأيه، أحب أن أضيف هنا ما عرفته عن هذه العادة التي تتجلى بوجوب سكب الرصاص للأطفال، والطريقة كالآتي:
يجلب غربال، ويوضع عليه بصلة، وبعض الملح في ورقة أو إناء، ومقص وصحن يحتوي على الماء إلى جانب قطعة رصاص، ومنهم من يضع في الغربال مقصاً وإبرة وخبزة، ويقولون وهم يتخيلون الشخص الذي أصاب الطفل بالنضرة:
(المقص إذا حكي عن الطفل يقص لسانو، والإبرة إذا حسد الطفل تشكو بعينو، والخبزة إذا نُظر إلى الطفل نظرة فارغة تمتلي عينو).
التنين كوحش أفعواني
يتكون التنين من غيوم كثيفة جداً، تلتف مع الهواء الشديد فتسحب معها الرمال والأصداف، والطحالب، والأسماك من قاع البحر، ويقتلع التنين الأشجار في طريقه حسب شدته وقوته، وحركة التنين الدائرية قادرة على اقتلاع أشجار عمرها (30) عاماً وكذلك قلع البيوت ورمي حجارتها وأشجارها بعيداً، كما ترفع كميات هائلة من مياه البحر إلى أعلى، هذا ومنذ (7) سنوات كسر التنين في طريقه قرابة (70) شجرة زيتون، وأشجاراً ضعيفة أخرى لا تحصى.
قطع التنين: أذكر أن جدي رحمه اللـه حين كان يشاهد بوادر التنين التي تتراءى فوق البحر حيث قريتنا المطلة عليه، كان يأخذ عود توت، ويبدأ بتنجيره وتقطيعه شيئاً فشيئاً، ويقرأ آية الكرسي ثم يقول: (يا هذا، يا ماذا، يا لله تنقطع بسيف اللـه يا هذا ويحدث في اليوم الواحد أكثر من تنين).
ولنقرأ عن التنين في عرف الأقدمين: التقليد الشعبي في الشرق الأدنى حتى يومنا هذا يصور التنين كوحش أفعواني جبار، والزوابع الشتوية التي تظهر فوق البحر إزاء الشاطئ السوري على شكل ثعبان أسود يرتفع من الماء إلى الغيوم، ويشار إليه باسم تنين في اللغة الشعبية، وفي الأدب العربي القديم نجد وصفاً للتنين، وعلاقته بالبحر، ففي كتاب مروج الذهب للمسعودي (القرن العاشر الميلادي) أن التقليد الشعبي في زمانه يعتبر التنانين تنشأ كريح سوداء في قاع البحر، ثم تبلغ سطح الماء، وتصعد إلى الغيوم على شكل زوابع، ويضيف: إن الناس يعتقدون أن هذه الزوابع هي أفاع سوداء تنبعث منها ومضات من الضوء ولا تتوقف مسيرتها المدمرة حتى تأتي ملائكة
الغيم المرسلة من اللـه فتجبرها على الخروج من البحر، وبحسب هذه الرواية يأتي أجل هذه التنانين عندما تضعها الملائكة في أرض يا جوج وما جوج حيث تمطرها الغيوم بوابل من البرد، ويخبرنا المسعودي أن الفرس يسمون التنين (أديوهان) ويعتقدون أن له سبعة رؤوس.
الجديد من أدوات الزينة
لم تكن المرأة تستعمل حتى عهد قريب أي نوع من أدوات الزينة سوى (الكحل)، وقد رافق وجود الكحل وجود المرأة، من لحظة الولادة، إلى لحظة الممات، ذلك أن الطفل بمجرد أن يلد، يصار إلى تكحيله، ولداً كان أم بنتاً، وما زال كثير من الناس في الريف يتبعون هذه العادة، ظناً منهم أن الكحل يؤثر في لون العينين فيزيدهما بهاءً، ويخترق الجلد فيغذي الرموش فتغدو سوداء فاحمة، وهو إن لم يكن للتجميل، فلناحية وقائية راسخة في الأذهان، وكانت كل امرأة تحضر الكحل بنفسها، وتضعه في مكحلة، ليكون جاهزاً دائماً، ودائماً كانت المرأة تردد المقولة التي تقول: (إن العين تطالب بوقية كحل كل سنة).