من دفتر الوطن

ظلم العقل

| زياد حيدر 

في فيديو انتشر مؤخراً لحسناء البيت الأبيض إيفانكا ترامب، تذهب الترجمة إلى مكان يرغبه أحدهم، وكلامها المسموع بوضوح لمكان مختلف تماماً.
تشاركت الناس المقطع، عبر «الفيسبوك» وشبكات التواصل الاجتماعي الأخرى، ووصلني كما غيري، أحياناً من أشخاص ناجحين ومرموقين، وأشير إليه باعتباره دعاية محببة ضد السعودية في جريدة رسمية، وهلل له في أماكن أخرى أقل جدية، واعتبره البعض وثيقة.
ما يثير الغيظ، ليس الترجمة المزورة للحديث، وإنما خفة التعاطي مع منشور، من دون الاستماع لنصه (كان مديحاً من بنت لأبيها المرشح حينها للرئاسة الأميركية) على حين كانت الترجمة المفتعلة (عن زيارته للسعودية لاحقاً وكيفية تعاطي الطبقة الحاكمة معها ومع والدها.. إلخ).
من جانب، يستلذ البعض تصديق أي أمر يتناسب مع قناعاته، ويروج له من دون مراجعة أو تدقيق. ولكنه من جانب آخر، وهذا أهم، مثال قبيح ولكن جيد عن الطريقة التي تتحكم بها وسائل النشر الحالية بحياتنا، فقدرة انتشار خبر أو مقطع مزور تفوق القدرة على مجابهته، خصوصاً في ظل القناعات الساكنة التي لا يرغب البعض في تحريك سكونها أو الخوض فيها.
وبالطبع يمكن وضع ترجمة مزورة أخرى، وذات مضمون متناقض، وستلقى الانتشار ذاته، ولكن في الاتجاه الآخر، وربما المقطع كله جزء من تجربة لتبيان هشاشة وسائل الدفاع عن الحقيقة، أو حتى كشفها.
وبما أنه معلوم أنه يمكن لثلاثة أشخاص سمعوا حديثاً واحداً أن ينقلوه بطرق مختلفة، يمكن تخيل ما يمكن لثلاثة ملايين مثلاً أن يفعلوه بجملة واحدة.
هذا من جهة المتلقي، ولكن أيضاً من جانب المتحكم والقائم على التكنولوجيا ثمة ما يجب الإشارة إليه.
فمنذ أيام حذر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في لقاء تلفزيوني من السيطرة شبه التامة التي تتحلى بها وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا، منبهاً أن هذا سيضيق خيارات الناس في المستقبل القريب.
والتحذير مهم، لأنه يأتي من أحد أكثر العالمين بأسرار التفوق الأميركي في هذا المجال وتأثيره في باقي مجتمعات العالم. وتأكيدا لما قاله أوباما أو انسجاماً مع السياق ذاته ربما، نشرت صحيفة الديلي تيليغراف البريطانية مقالا تضمن تحذيرات من خبراء عالم التواصل الاجتماعي، وبعضهم كان عاملاً لدى عمالقته كـ«فيسبوك» و«غوغل» وغيرها.
ومن ضمن المذهل مما قيل نقلا عن تريستان هاريس وهو مستشار سابق للشؤون الأخلاقية في غوغل «أنه قلق من النفوذ الذي تتمتع به شركات الإنترنت الآن. مضيفاً «إن 50 شخصاً في ماونتين فيو يوجهون كل يوم أفكار ملياري شخص»، في إشارة إلى المنطقة التي فيها مقر غوغل في كاليفورنيا، وأن «لا أحد يتحدث عن ذلك، فهي بقعة عمياء 100 بالمئة». ووفقا لهاريس وزملائه، فإن حملة توعية مكلفة يجب أن تنطلق الآن لـ«التحرر من هذا الأسر» الذي يحركه انخراط هذه «الشركات في سباق صفري للاستحواذ على انتباهنا المحدد الذي تحتاجه من أجل المال»، وذلك عبر طرائق مقنعة بصورة متزايدة «لإبقائنا مأسورين» باستهداف «عقولنا بتغذيات إخبارية ومحتوى وإشعارات يحركها الذكاء الاصطناعي متعلمة باستمرار كيف تصطادنا بصورة أعمق، من سلوكنا ذاته».
لذا مختصر ما يمكن قوله، كن أكثر حرصاً في تشكيل وعيك اليومي، وتذكر دوماً ملكيتك على عقلك، وذلك كي لا يخذلك يوماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن