خطاب بوتين: أقل من إعلان حرب وأكثر من نعي للقطبية الواحدة
| فرنسا- فراس عزيز ديب
منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، كان الجميع بانتظارِ الإجابةِ عن سؤالٍ مهم: ما مصير العلاقاتِ الروسيةِ الأميركية في ظل الصدامِ السياسي المحموم بينهما على عدةِ نقاطٍ ساخنةٍ حول العالم، بعضها يصل إلى حدِّ الصدام العسكري غير المباشر؟
في واقعِ الأمر فإنه وخلالَ عامٍ ونيِّف لم تشذ النظرة لطبيعةِ العلاقةَ بين الجانبين عن فرضيتين اثنتين: الفرضية الأولى، وهي أن الدولتين العظميين متفقتان على أغلبية التفاصيل في الأمور الخلافيةِ بينهما من بينها حدود السيطرة ومناطق النفوذ، وما يؤجل الإعلان النهائي عن ذلك هو الوقت المتاح للرئيس الأميركي تحديداً ليعلن عن هذهِ الاستدارة التي كانت ولا تزال تضعهُ في مواجهةٍ شرسةٍ مع البنتاغون، وهذه الفرضية لا يبدو أنها أتت من فراغ بل إنها تستند للاتهامات الموجهة لترامب بأنه دميةٌ روسية ما كانت لتصل إلى البيت الأبيض لولا التدخل الروسي المباشر في الانتخابات الرئاسية، من بينها كشفَ صندوق الرسائل الالكتروني لمنافسته هيلاري كلينتون التي أضعفَت محتوياته حظوظها بالفوز، وصولاً لمسلسلِ التحقيقاتِ الذي لا ينتهي مع مساعديه وقادة في حملته الانتخابية التي قادت البعض منهم للاستقالة من بينهم مستشاره للأمن القومي مايكل فلين.
أما البنتاغون وهو الطرف الأهم المعني بهذا الصراع، فكان ولا يزال يسعى لتحجيم ترامب حتى بأدقِّ التفاصيل، فعندما رفعت الدبلوماسية الأميركية مدعومةً من البيت الأبيض مثلاً السقف بما يتعلق باستخدام الجيش العربي السوري للسلاح الكيميائي في الغوطة، خرج البنتاغون بنفي امتلاك الولايات المتحدة لأدلة على هذا الاستخدام في مفارقةٍ وإن بدَت غريبةً لكنها تشي بالكثير عن الحال المتردي الذي وصلت إليهِ العلاقة بين المؤسسة العسكرية والبيت الأبيض.
الفرضية الثانية، وهي رؤيةُ الصورة للعلاقةِ التي تربط الدولتين العظميين بواقعيةٍ، فلا شيء من تحت الطاولة بل إن كل الملفات اليوم هي فوق الطاولة وهذا يعني أن الصدام بين الدولتين حقيقي ومستمر لكن هناكَ من لا يستطيع أن يهضم هذه الفكرة، ليس لعيبٍ فيها، بل لأنهُ الصراعُ النفسي بين الرغبةِ والواقع، تحديداً إذا كان طرفا الصراع النفسي يؤديان للنتيجة ذاتها وهي إمكانيةِ إطفاء الحرائق المشتعلة عبر العالم، هو صراعٌ بين ما يريد البعض أن تكون عليه الأمور وبين ما هي عليه فعلياً، والذي ينطبق عليه توصيف أننا نعيش معركةَ «كسر عظمٍ» قد تأخذ وقتاً لتتجسدَ نتائجها حتى بما يتعلق بالمصطلحات المستخدمة في توصيفهِا، وعليه جاء خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الجمعية الروسية ليضعَ النقاط على الحروف لمحاولةِ فهمنا أيَّ تحولٍ نعيشهُ، فكيف ذلك؟
نبدأ من الشكل، فالخطاب كان أمام الجمعية الروسية التي هي بالنهاية أعلى سلطةٌ تشريعيةٌ في البلاد، لكنه دونَ سابقِ إنذارٍ كان بمضمونٍ عسكريٍّ بحت، ولعل استخدامَ تقنيات الصوت والصورة في شرح أسرارٍ عسكرية في خطابٍ من المفترض أنه سياسي لم يكن بالأمرِ العابر، مع الأخذِ بالحسبان أن ما تمَّ عرضهُ ليس الجيل الأحدث من هذا الأسلحة، فهناك نسخ أكثر تطوراً لا يمكن الكشف عنها، ليبقى السؤال المطروح وبعد كل هذه الأسلحة المرعبة التي تم عرضها، ما الذي يخفيهِ الروس؟
أما في المضمون فالخطاب لم يكنْ كما تبرعت كبريات الصحف والمجلات الفرنسية بوصفهِ «عرضَ عضلات»، بل كان استعراضَ انجازاتٍ ورسم خطوط عريضةٍ للمستقبل ببعدين: البعد الأول داخلي معنيٌّ بهِ المعارض الروسي الذي يأكل من الفتات الأميركي أو المواطنين العاديين، تحديداً أن توقيت الخطاب قبل أيامٍ من الانتخابات الرئاسية التي يبدو فيها الرئيس الحالي فلاديمير بوتين الأوفر حظاً للفوز بها، وبمعنى آخر: منذُ وصولِ طلائعِ القوات الروسية إلى سورية لمساعدتِها في الحربِ على الإرهاب بطلبٍ من القيادةِ السورية، كان الإعلام الغربي ولا يزال يحاولُ الاستثمارَ في خسائرِ الجيش الروسي على الأرض السوريةِ لاستثارةَ المواطنين الروس ودفعهم للقولِ إن هذه الحرب ليست حربنا، وإن أبناءنا ليس عليهم أن يستشهدوا من أجلِ الآخرين، بالتأكيد فشلت المساعي الغربية في ذلك واستطاعت القيادة الروسية تعويمَ فرضيةِ أن الدفاع عن موسكو يبدأ من منع سقوط دمشق، هذا التحريض على أملِ خلقِ ربيع روسي على الطريقة المستعربة ارتكز كذلك الأمر على المجال الاقتصادي، فحمل رايتهُ «آل سعود» بإيعازٍ أميركي، عندما أعلنوا عن تخفيضِ أسعار النفط لضرب الاقتصاد الروسي، هذا الأمر وإن نجحَ في تخفيضِ العائداتِ النفطيةِ لكنه لم يؤد الرسالة المطلوبة منه والهادفة لتأليب الداخل الروسي بسبب العوَز الاقتصادي، وذهبت طموحاتهم كما العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي على موسكو أدراج الرياح، وعليه بدا هذا الخطاب رسالةً موجهةً للداخل، بأن وعي الشعب الروسي ودعمهِ لقيادتهِ هو من أوصل روسيا لهذه المرحلةِ الجديدة التي قد تجعل أعداءَها يترحمونَ على الحقبةِ السوفيتيةِ، فماذا عن البعد الخارجي؟
ربما ليس هناكَ أوضح من عبارةِ «إذا تعرض حلفاؤنا لهجوم نووي فإننا سنرد» لفهم الرسائل الخارجية لخطاب بوتين، لكن ما بدا لافتاً للنظر أنه وبعد هذا السقف المرتفع للخطاب وفي حديثٍ مع محطةْ إن بي سي الأميركية نفى بوتين أن يكون خطابهُ عودة لمنطقِ الحربِ الباردة، بل وصف المحللين السياسيين الذين يروجون لهذا المصطلح بأنهم يقومون بمجرد دعاية.
في اللغة الدبلوماسية قد نفهم إصرار بوتين على نفي العودة لمنطق الحرب الباردة لأنه يريد أن يُظهر روسيا دولة تحترمُ كل الاتفاقيات والمعاهدات المتعلقة بخفض التسلح عكس الأميركي، لكن الواقع يقول لنا إن ما نعيشه فعلياً قد تجاوز حتى ما يمكننا تسميتهُ اصطلاحاً «الحرب الساخنة»، فخلال عقودٍ على تعويمِ مصطلح الحرب الباردة بين الطرفين الأميركي والسوفييتي ارتكز هذا المصطلح على حالةِ العِداء بين هاتين القوتين، عِداءٌ كان من بين أسبابه الخلاف في الأيديولوجيات ومناطق النفوذ وصولاً لكسرِ أحدهما للآخر في قضية سباق التسلح، هذا المصطلح وإن كان قد انتهى مع رحيل الرئيس السوفييتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف ورحيل الدولة الاتحادية معه بالكامل، فإن الظروف اليوم لا تبدو أبداً مختلفة عما كانت خلال الحرب الباردة وصولاً لسقوط الاتحاد السوفييتي مع فارقٍ بسيطٍ يستند لسؤالٍ جوهري: من الدولة الأكثر ترهلاً في هذا الوقت، ومن الذي سيلعب دور ميخائيل غورباتيشوف في هذه المرحلة؟
هنا نعود للخطاب ونقول هو فعلياً أقلَّ من إعلانِ حربٍ، لكنهُ حكماً يتجاوز فرضيةَ تعميقِ عالمٍ متعددِ القطبية، وإذا كان التاريخ قد علمنا أن الأميركيين استخدموا غورباتشوف ذات نفسه لإسقاط عالمٍ ثنائي القطبية بإسقاط الاتحاد السوفييتي نفسه، فما النتيجة المحتملة لترسيخِ عالمٍ متعددِ الأقطاب؟
لن نُفرط في الأجوبة المتفائلة لكن ليس علينا فقط النظر لرد الفعل الرسمي الصيني على خطابِ الرئيس بوتين والذي كان ملؤه الثقة بالدور الروسي، في الوقت الذي ذهب فيه البعض لإمكانية حدوث شرخٍ في هذه العلاقة، لكن علينا أن ننظرَ بتمعنٍ لاستماتة الدولة العميقة في الولايات المتحدة لإلصاقِ أي تهمةٍ بالرئيس الحالي دونالد ترامب، هم لم يوفروا حتى نجمات الأفلام الإباحية من معركتِهم معهُ، إذ لا يكاد يمرُّ شهر إلا وتخرج إحداهنَّ لتعلن عن علاقةٍ كانت تربطها بالرئيس الأميركي وابتزازهُ لها مقابل سكوتها، هذا ليس بريئاً، فهل بات أصحاب القرار في الدولة العميقة ينظرون بتوجسٍ لطبيعة العلاقة التي تحكم اليوم الروس بالأميركيين، تحديداً إذا كانت هذه العلاقة مبنية على مزيجٍ من الفرضيتين اللتين ذكرناهما سابقاً، بالتالي باتوا كمن يترقب عودة «غورباتشوف الأميركي»، لمَ لا؟ البادي أظلم.