يوم اللغة الأم… ويوم اللغة العربية … إن لغتنا تمتلك مرونة على استيعاب موجات الحداثة وما تحمله من مصطلحات أو تعبيرات
|سوسن صيداوي
اللغة في كلمات عباراتها هي مفتاح يُترجم به شعور القلوب ويتحول من خلاله فكر العقول اللامرئي إلى واقع مفهوم. ولأهمية اللغة البالغة في احتضان التراث والمحافظة عليه كان لابد لنا من أن نتمسك بها، وأن ندافع عنها دائما في مواجهة الحداثة، ولتأكيد أهميتها أقام مجمع اللغة العربية بدمشق احتفالا سنويا بمناسبتين مهمتين تمّ جمعهما في يوم واحد: عيدُ العربية،بصفتها لغتَنا الأم، وهو عيد يقيمه عادة في الحادي والعشرين من شهر شباط، وقد تمّ إرفاقه بالعيد العالمي للغة العربية، وهو في الأول من آذار، بعد أن أصبحت العربيةُ اللغةَ السادسة بين اللغات العالمية التي يمكن اعتمادها في المجالات الدولية. وكانت تناولت الندوة التي أقيمت في قاعة المحاضرات في المجمع بهذه المناسبة قدرة لغتنا ومرونتها على استيعاب كل موجات الحداثة وما تحمله من مصطلحات أو تعبيرات لغوية.
نجاعة لغتنا العربية
افتتح الندوة الدكتور مروان محاسني رئيس المجمع بمداخلة أكد فيها أن مجتمعنا ما زال يثابر في الإخلاص لدفع الأذى عن حياض اللغة العربية، وبأن هذه مهمة تتركّز في مواجهة التيارات الحداثية التي تسعى لاستثمار تلكّؤ مجتمعاتنا في اقتناص الفرص للإفادة من السيل المعرفي الذي تطرحه الحركة العلمية العالمية، والمؤدي بطبيعته إلى إغراق اللغات الأخرى بسيل من المصطلحات التي تنتجها المراكز العلمية، لافتا إلى حيوية لغتنا- اللغة العربية- وقدرتها على الانفتاح على كل المجالات الفكرية، قائلاً: «وليست خدمة اللغة العربية محصورة في دراسة أساليبها، أو تسهيل إعرابها، أو التفاخر بإبراز تلك الثروة اللغوية التي ورثناها عمن حملوا شعلة الحضارة العربية الإسلامية إلى أقاصي المسكونة، وقدّموا فيها منطلقات فكرية استمرّ انتشارها حتى القرن العاشر الميلادي، وكانت أساسا راسخا للحضارة الأوروبية، بل إن هدفنا الأسمى هو جعلُها قادرة على السير مع تطوّر العلوم، في عالم قارب على جعل اللغة الإنكليزية المرجعيةَ الأولى، حين تَودّ المجتمعات الوصول إلى فهم دقيق لنواظم الكون الذي نعيش فيه، وخاصة حين تودّ النفوذ إلى توضيح ما يحيط بها من تغيّرات ومؤثرات لعلها تستطيع درء أخطارها». مشيرا إلى ضرورة الانتباه من الوقوع في فخ الحداثة الذي يبعد دعاة التغريب- من حيث استخدامه الألفاظ والمصطلحات- العربي عن مسلكه العربي، متابعا: «وأما ما يخصّ دعاة التغريب، الذين نراهم يزوّقون خطابهم بألفاظ أجنبية مُدّعين بذلك انفتاحهم على ثقافات أوسع من ثقافتهم، فقد أثبت الكثير منهم عدم وجود فهم دقيق لهذه الألفاظ لديهم، وهذا ما يجعلها ناشزة في خطابهم. إنه مسلك يُبعد العربيَّ عن التفكير عربيا، من دون أن يُدخله إلى الفكر الأجنبي، وهو تصرّف قد لا يكون إراديا، بل هو نتيجة واضحة لما نشهده من اختراق ثقافي حضاري تمارسه الحداثة المُعولمة الغازية التي لم نأخذ منها سوى قشورها، إذ إننا لم نستفد من هذا الاختراق لننفذ إلى لبِّ الثقافة الغربية، ونأخذ منه الأسس التي نبني عليها تطوّر مجتمعاتنا. ولا شكّ بأن مفهوم ما بعد الحداثة هو تأكيد لإخفاق الحداثة الغربية في هدفها الإنساني الأصلي، إذ إنها أخلفت هيمنة ظالمة، واعتمدت الاستعمار للسيطرة على الشعوب، واتخذت الحروب وسائل لتحقيق مصالحها، بعد أن أنتجت الفاشيّةَ التي انتهت بالخراب والدمار. ولذا فإن ما بعد الحداثة هو عصر التنوع والاختلاف، بل هو عصر التشظي».
وأوضح المحاسني أن مسار مجمع اللغة في توطين العلوم، يكون عن طريق صناعة المعجمات العلمية اللازمة للعلوم الحديثة التي تدرس في جامعاتنا كخطوة أساسية في تطوير لغتنا لإخراجها من عولمة تعمل على تجريدها من مميزاتها، مضيفا: «وأهم ما نريد الوصول إليه هو أن تكون الألفاظ بحجم دلالاتها، حاملة للإشعاع الحضاري المناسب، وهو الذي يربطها بإمكانات العطاء الإبداعي، بما يرتقي بلغتنا إلى مستوى إنجازات الآخرين. وإننا بذلك نحافظ على مخزونها التاريخي والفكري، وخصوصا على بعدها الإنساني، لأنه أساس لوحدة الناطقين بها، إذ إن الحفاظ على اللغة هو الحفاظ على الوجود حضوراً ومصيراً، ولا شك أن توثيق العلاقة الحياتية بين لغتنا وبين مقومات مجتمعنا، في مواجهة ما يطرأ على عالمنا من تغيّرات متسارعة، هو مهمة غرضها أن يحول دون ظهور أجيال لا انتماءَ لها ولا هوية، بعد أن يسيطر التغريب على مناهج التفكير وقواعد التعبير عنه». وختم رئيس المجمع: «إن لغتنا لن يعجزها متابعة مسار تلك التقانات، فهي قادرة على استيعاب مصطلحاتها مهما يكن سيرها سريعا، حتى تبقى مصطلحاتها جاهزة ومألوفة للعاملين في هذا المجال، تمكنهم من متابعة مجريات الإبداع في عالم التقانة. ولا يظنَّنَّ أحد أن مثل هذا المسلك يخرج العربيةَ من فلَكها الواسع الذي مازال يجول فيه العقل والفكر والخيال، بل إن تطور العلوم الأساسية، في سعيها الهادف إلى كشف الدقائق المرتبطة بطاقاتها البحثية، قد جعلها تعتمد وسائل تنفيذية تسهّل الوصول إلى تطبيقاتها، بعد النفوذ إلى مسارات الفكر الرياضي لتفهّم تفاعلات وعلاقات لا قدرة للبصر على النفاذ إليها. وهذا ما يدعونا إلى إدخال أساسيات التقانة وأدق تفاصيلها إلى لغتنا، لإخراجها من غربتها في مسار طويل سلكناه في وضع المصطلحات الخاصة بالعلوم الدقيقة. وبذلك نتدارك أي قطيعة معرفية بين حاضر مجتمعاتنا في مسارها نحو مستقبل مشرق، وبين ماضيها العريق المتميز بمساهماته في بناء العلوم الحديثة، ونقدم للأجيال الناشئة ما تستطيع ضمه إلى مخزونها الثقافي، فلا يبقى ما يلزمها إلى اقتراض مشوه للغتهم».
تمكين اللغة مسؤولية الشباب
من جانبه تحدث عضو مجمع اللغة الدكتور موفق دعبول عن قدرة اللغة العربية على استيعاب كل المجالات التي تطرحها الحداثة، مشيرا إلى أن لغة الضاد أثبتت عبر التاريخ قدرتها على التواصل مع الحضارات الأخرى متمكنة من التعبير عما تحتويه علوم الشعوب الأخرى ومعارفها بما تملكه من خصوصية المرونة واستيعاب كل ما هو جديد، مسلطا الضوء في نهاية حديثه على بعض النقاط التي نوجز بعضها: «إن إصرار سورية على أن يكون التدريس باللغة العربية في جميع مراحل التعليم- ويشمل ذلك التعليم الجامعي- كان له كبير الأثر في إبقاء اللغة العربية حية بجوانبها المختلفة. وتحاول الآن بعض الجامعات بالعالم العربي الاقتداء بالتجربة السورية. هذا وعملت وسائل الإعلام المختلفة- وخاصة تلك التي تصر على البقاء العربي- على الابتعاد عن اللهجات المحلية التي كان يصعب علينا فهمها، ومن ثم أعترف بأن بعض الدول العربية من خلال وسائل إعلامها قطعت خطوات لا بأس بها. إضافة إلى أنه لا يمكننا أن ننسى دور المجتمعات الأدبية الأهلية في حماية اللغة العربية، على الرغم من الدور الذي تقدمه مجامع اللغة العربية وبعض الجامعات وغيرها من الأنشطة، فهي غير كافية لمعالجة مظاهر التخلف الثقافي، فالمعالجة الفعالة تبدأ من الأسرة، والمدرسة والبيئة والعمل. يجب أن يتم تدارك ما يمكن تسميته إعداد المواطن وما يتطلبه من تحفيز العقل واستعماله في تبادل العلاقة بين المواطن والآخرين. في النهاية أتوجه للفئة الشابة من أبناء أمتنا العربية كي يدافعوا عن أغنى لغة بالعالم، وأن يحسنوا تعلّمها، ويحاربوا كل تلوث ممكن أن يصيبها، لأنهم في الدفاع عنها فهم يدافعون عن مستقبل أجيال قادمة».