دمشق عجيبة الدنيا والغوطة سرّها وسوارها
| إسماعيل مروة
عجائب الدنيا السبع، أكثر أو أقل، سواء سجلت في موسوعات عالمية أم لم تسجل، فإن العجيبة تبقى عجيبة، وشهادة العلماء والمعاصرين لرحلة العجيبة هي الأهم، فالأهرام سواء سجلت أم لا فهي عجيبة وأعجوبة الأعاجيب، رضي تاج محل أم لم يرض، وسخط برج إيفل أم رضي، وكما صدر أمّ هو عجيبة الأمومة، ولا يحتاج أحدهم لعرض صدر أمه أمام الخبراء للشهادة بأعجوبة حبه وعلاجه وحنانه، كذلك البلدان تتحول إلى عجيبة بأهلها وبذاتها.. واليوم صارت الغوطة حديثاً على كل لسان يرطن الإنكليزية أو العربية أو سواهما، وصار اسمها يتردد كما هو من دون ترجمة، ولو قمنا بتعداد المرات التي ذكرت فيها الغوطة لنالت استحسان الموسوعات وصارت عجيبة، وما يفيد هذا الذكر؟ وما يفيد أن تصبح الغوطة عجيبة الدنيا بعدد المرات التي ذكرت به؟ وربما كان الأدب وراء ما أذكره، فمحمد كرد علي وصف هذه العجيبة وأحبها وكتب عنها وسكنها، وعربين أو عربيل كما كانت في اللغات القديمة حاضرة اقتصاد وعلم، وقد كُتب عمن أنجبتهم عربين كتب كاملة، أما دوما عاصمة ريف دمشق، وما أدراك ما دوما، وداريا والديراني والدير، وحدّث بما شئت من كل بلدة من بلدان الغوطة، وأجمع ما قاله خليل مردم بك ومحمد البزم وأنور العطار وخير الدين الزركلي، وردد ما قاله المغنون عنها عبر الأزمان لتعلم أنك أمام بقعة من الدنيا لا تدانيها منطقة، ويكفي أن تعود إلى معجم البلدان لياقوت الحموي العالم الكبير الذي دار أغلب البلدان التي كتب عنها في معجمه الموسوعي، والذي يقول بأن دمشق عجيبة الدنيا بغوطتها، ويزيد بأن جنة الله على الأرض هي غوطة دمشق، وهي بذلك تتفوق على شعب بوّان الذي ذكره المتنبي (ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان).. الغوطة التي كانت ولا تزال مهوى الشعراء، وملعب النثر، ومستراح المتعبين، وملاذ الخائفين، ومطعم الجائعين، الغوطة هي غوطة سورية، وفي سهل أقرب إلى الصحراء كانت أخصب من الجبال الخضراء، وأكثر فتنة من البلدان التي لا يتوقف تهطالها.. الغوطة التي كان الشعراء والأدباء والساسة بانتظار انتهاء التزامهم اليومي في أشغالهم للهرب إليها، وإلى روحها وفضاءاتها، لتغسل أرواحهم وهي رئة الشام.. اختار الموسرون مصايفهم، فهذا شفيق جبري في بلودان، ولكن الجمع الغفير منهم اختار الغوطة، فهذه (بالا) وهذه (العدمل) وكل قرية تحمل اسم (حوش) كانت ملاذاً لعائلة أو أكثر، ومن ثم تحولت إلى قرية متكاملة من عمالها وسكانها وأسرهم.. الغوطة وكل ما في الغوطة فتنة رب، لم تشأ كل الموسوعات أن تسجلها كما أراد ياقوت الحموي عجيبة من عجائب الدنيا، التي حرصوا على عدم زيادة عددها، هذه نحن، هذه غوطة سورية، وما غيرها غوطة في الكون، اليوم تتردد حروف اسمها على ألسن عجماء، لا تشكر ذاكريها، ولا ترجو إلا أن تعود همساً لعصافير، وأن تكون ملاذ العنب والمشمش والخضروات، وأن تعود إليها أسراب الطيور، وقطعان الماشية.. ستولد الغوطة من جديد ليزورها ياقوت ويعود إليها شعراؤها ومحبوها، لمائها وقمر الدين فيها، وكل ما فيها من أعاجيب الفاكهة والأطايب والأمان.. هل نحن بنوك أم ماذا؟ لن تبخلي بالعودة.. عنك قال ياقوت: «قال الأصمعي: جنان الدنيا ثلاث، غوطة دمشق، ونهر بلخ، ونهر الأبلة.. وقال أبو بكر الخوارزمي الشاعر: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصفد سمر قند وشعب بوّان وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها وأفضلها غوطة دمشق.
ويقول عن الشام وغوطتها «وجملة الأمر أنه لم توصف الجنة بشيء إلا وفي دمشق مثله، ومن المحال أن يطلب بها شيء من جليل أعراض الدنيا ودقيقها إلا وهو فيها أوجد من جميع البلاد..».
وهل مثل قول أبي المطاع بن حمدان في وصف دمشق والحنين إليها؟
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها
فلي بجنوب الغوطتين شجون
وما ذقت طعم الماء إلا استخفني
إلى بردى والنيربين حنين
وقد كان شكى في الفراق يروعني
فكيف أكون اليوم وهو يقين؟
فوالله ما فارقتكم قالياً لكم ولكن ما يقضى فسوف يكون
وأختم بقول الصنوبري الشاعر:
صفت دنيا دمشق لقاطنيها
فلست ترى بغير دمشق دنيا
تفيض جداول البلور فيها
خلال حدائق ينبتن وشيا
إنها شامة الدنيا وعجيبتها، إنها دمشق التي يغار الحسن منها، إنها الشام التي ما إن يسمع الحاقد اسمها حتى يصاب بالمس وتقتله الغيرة، ويحاول أن ينال من شام!!
لم يكن ابن حمدان شامياً ولا الصنوبري ولا أنا ولا الأخطل ولا القروي، لكن الحب هو الذي يدفع للحب، والتباهي بالشام، أما الحاقد فلو كان ابناً لها أو ساكناً لها، فإنه يرضع من ثديها وحليبها، ويغضب إن امتدحت أمامه، وربما أشار بإصبع الغضب إلى من يمتدح الشام، فهو بحقده يعرف أن الشام الجنة تكشف غور عواطفه، وهو يعلم أنه لم يستوعب كم الحب الشآمي فبقي يشعر بالنقص والحقد.
لذا لسنا ننتمي إلى الشام وغوطتها
لذا ستعود شام وغوطتها لسيادة الدنيا وجنانها
قد لا نصبح علماً ووو.. لكن الجنة في الأرض ستبقى جنة
وقاسيون سيحمي ما تبقى
ونحن راحلون
بحبنا راحلون.. بحقدنا راحلون.. بتشوهاتنا راحلون.. بمزايانا راحلون، ويبقى ياقوت يردد على الزمان: هي عجيبة الدنيا وجنة الله على الأرض ويبقى نزارها يقول: يا شامة الدنيا ووردتها.
غوطة دمشق لمحمد البزم
تسعى لها الفردوس يطلب عندها
منح الجمال وشائجاً وعقودا
في كل مشرفة وكل قرارةٍ
وحي يهيج من البيان وقودا
يفد الربيع على الربيع ويلتقي
فيها النديد من الخميل نديدا
سافر بلحظك حيث شئت فلن ترى
إلا عجائب توجب التوحيدا
أنى التفت فجدول مترنم
أو نائحٌ في أيكه تغريدا
وسواكب ومواكب وكواكب
تجري النحوس بجوهن سعودا
فإذا انحدرت فسابغات نجدت
فيها النمارق والحلا تنجيدا
نفضت به الزرقاء غرّ نجومها
نثراً تخال به اللحاظ نقودا
وحنا عليها الليل ملتمساً بها
زهر الفراقد توءماً ووحيدا
وإذا علوت فلجة من خضرةٍ
تجري بسابحة اللحاظ مديدا
ضحك الغدير إلى الغدير وقهقهت
لهما المتاعب مبدئاً ومعيدا
وثنت معاطفها الغصون فكلها
ثمل يعانق من أخيه ميودا
يتمازج الدمعان: دمع غمامها
بحبيس خضرتها فتنضر عودا
وتكاد عاتية السحاب بجوها
تهوي فتلصق بالجميم سجودا
فتن الصباح بها وغار مساؤها
فتباريا براً بها ورفودا
وافتر ثغر الليل عن أندائها
حبباً على أزهارها منضودا
وكأنما ركزت على اثباجها
تيجان أهل الخافقين بنودا
تتقلص الجنان عن جنباتها
خوف الرجوم فما يطقن وفودا
يسطو على عبق العبير عبيرها
أرجاً لينعش أنفساً وكبودا
ويلوذ معتل الهواء بظلها
يرجو الشفاء مكبلاً مكدودا
يكبو وينهض في أديم رياضها
خضل المعاطف متعباً مجهودا
يلقي إلى جدل الجداول مسمعاً
لقناً وآخر للحون صيودا
رقت له كبد الهواجر وارعوى
طاغي العواصف فانتحين وئيدا
وقضى على الرمضاء في صحرائها
وأقام في وجه الحرور سدودا