حين نهمل الحكمة ونفسّر الأحكام على هوانا! … الدعوة ليست في خدمة المذهب والزمان بل للتذكير بجوهر الوجود والعمل له
«في جلسة مع سماحة المفتي العام الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون لفتني حديثه عن تفسير كلام الله تعالى فسجلته وأضعه بين أيدي القراء للإفادة منه ومن رؤية سماحته».
حين خاطب الله جل جلاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في كل سورة من السور الكريمة هناك إشارة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدايتها أو في وسطها أو في آخرها، هذا في السور الطويلة، أما في قصار السور فإننا نقف عند كلمة (قل).. وكلمة (قل) أي إنك ستكون نموذج قولك، فيا محمد ستكون أنت النموذج في هذا القول، وفي سورة (النصر) إذا جاء نصر الله والفتح، لم يقل: قل إذا جاء نصر الله والفتح.. ولا (الكوثر) أما (أرأيت الذي يكذب بالدين) و(قل هو الله أحد) و(ألم تر)؟ لِمَ يقول الخطاب هذا الأسلوب المعجز؟
ليقول له: أنت ستكون أول من يطبق هذا، فتكون هذه الآيات موجهة إليك لأنك ستكون نموذج التطبيق أمام الناس، فليس خطاب القرآن للنبي فقط في قوله (يا أيها النبي) و(إنا أرسلناك) (بلغ ما أنزل إليك) بل في كل ما يحمل دلالة الخطاب مثل (قل، ألم يجعل، ألم تر) فهذه الآيات موجهة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم) أولاً لتكون نموذج التطبيق.
والنص القرآني تقوّل فيه عدد من المفسرين غير ما أريد منه، وغير ما فهمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعدد من المفسرين أرادوا مواءمة بين زمنهم وحاكمهم وحياتهم، فراحوا يفسرون كلام الله عز وجل بالأقاويل لا بمراد الله عز وجل، فقد قال الله مخاطباً النبي (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل..) إذاً لا يجوز التقوّل في تفسير النص القرآني بما يوافق هواه، بل بما يوافق مراد مولاه.. وهذا لا يجوز للنبي، فما بالنا ونحن نجد من يفسر بما يوافق هواه؟
ولو نظرنا إلى الأئمة رضوان الله عليهم الذين عاشوا من الإمام جعفر إلى أبي حنيفة وزيد وأحمد والشافعي والأوزاعي وجميعهم عُذّب، وبعضهم قُتل، وأحرق، والسبب أن الأئمة الأجلاء لم يقولوا بعض الأقاويل، بينما نجد عدداً من المفسرين في زمانهم يفسرون كلام الله بما يوافق هوى الحاكم ومصالحهم مع الحاكم، ومع هوى المجتمع الذي يعيشون فيه.. وكذلك فعل المؤرخون الذين زوروا التاريخ، ووصل تزويرهم إلى قصص الأنبياء، إذ كتبوا كل ما كتبوه في سبيل مصالحهم ورضا الحاكم الذي عاصروه لأنهم يعملون لديه، ولا يعملون بالعلم..! ولو عدنا إلى القرآن الكريم فإننا سنجد كثيراً مما كتبه المفسرون في فهم القرآن الكريم مستمداً من طبقاتهم الحياتية وقبائلهم، بل نجد خلافاً مناطقياً في الفهم حسب الأهواء والميول، لذلك نجد الله سبحانه وتعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) الذي يحمل راية القرآن ونور الإسلام ومسير محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يجعل من الثلاثة حاملاً لأغراضه وأهوائه وليتقول بما يمليه هواه، ويأخذ الناس إلى ما ينبغي من عزة لنفسه وقبيلته وزمانه ومجتمعه من دون مراد الله فيه فهو من كان مقصوداً في قوله (ولو تقوّل علينا..) فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحبوب المعصوم يواجه بخطاب الله الحازم، فالمقصود الحقيقي نحن الذين جئنا بعد النبي لنحمل راية الإسلام والقرآن.
المقصود أنتم يا علماء المسلمين، لا تفعلوا ما فعل الأقوام قبلكم في فهم النص المقدس الذي جاءهم، فلا جدال ولا تقوّل في فهم القرآن، وفسّروا بما يوجه العقل ويرتقي به، وفهم القرآن للارتقاء لا لملء الجيوب واكتساب المواقع والمناصب، والحصول على رضا المجتمع والحاكم.
فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم خوطب بقوله تعالى: (ولو تقول علينا..) فما بالنا عندما نخاطب نحن بهذا الخطاب؟
ومن هنا أجد أن المفسرين والمؤرخين لم يسجن واحد منهم، ولم يعذب واحد منهم، وكل العذاب جاء للفقهاء والمجتهدين الذين رفضوا أن يتقولوا بعض الأقاويل.. لأنهم أصحاب الفكر وفقه النص وحكمته، فالمجتهدون عوقبوا كما حصل مع أبي حنيفة عندما رفض أن يكون شيخ الإسلام، لأنه عرف أنه إذا دخل المنصب انصاع لفهم الحاكم.. والإمام أحمد بن حنبل لا علاقة له ببدعة خلق القرآن، وهي قضية سياسية بثوب عقائدي، والإمام أحمد لا يؤمن بالاعتزال ولا بالأشاعرة، هو مجتهد، رفض هذا الصراع.. وما رفضه يومها نقوم اليوم بدراسته وتدريسه في جامعاتنا، ليقتل بعضنا بعضاً.. نسينا إسلامنا وقرآننا والنص، وتبعنا الاعتزال والأشاعرة، وتبعنا الصوفية والسلفية، وكأن هذه المذاهب الفكرية هي الإسلام والنص.
فمن يتصدَّ للنص والمهام الدينية فعليه أن يعمل من أجل أمته والنص المقدس والوطن، ونصح الحاكم، وأن يقبل الحوار والانتقاد، واستخدام الموقع يجب ألا يخالف النص والخير.. وعليه ألا ينصاع للمؤسسات السياسية والدينية التي أرادت أن تحتوي كل شيء لمصلحة الزمان والسلطات والبيئات.
وفي مسيرتي العلمية، وفي المهام التي شرفني الله بها لم أخرج عن هذا الفهم، وضرورة توجيه الخطاب الديني لمصلحة الدين والأمة.
وما نراه من شعارات اليوم يفعل فعله السلبي، ويدفع للكره، والدين هو حب.
الشعارات بالأحكام شيء وبالحكمة شيء آخر.. ومن أهم الشعارات التي غبّرت حياة الأمة (الإسلام دين ودولة) متى ظهر هذا الشعار؟ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت لبناء دولة، بل جاء لبناء أمة.. الدول يصنعها الناس أما الأنبياء والرسل فلم يبنوا دولاً، بل يجمعون الأمم، والله تعالى قال (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ولم يقل خير دولة!
وهذه الأمة ليست العرب فقط، والنص يحدد (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) فمن حمل هذه القضايا الثلاث هو من خير أمة أخرجت للناس ولو كان سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وعلي القُرشي.
كل الشعارات التي ترفع اليوم هي نفسها التي قتل بها سيدنا عثمان وهو يقرأ القرآن، وطعن بها سيدنا علي وهو على باب الفجر ينادي للصلاة، وذبح بها الإمام الحسين ريحانة بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بروايات جميع الأئمة والمذاهب وكل الروايات.
بعض أبناء ذلك الزمان الذين أرادوا رضا الحاكم والمجتمع قالوا: ذبح الحسين عليه السلام بسيف جده! كيف بسيف جده قالوا: لأنه خرج عن الجماعة.. ومتى كانت الجماعة تعبر عن ظلم وباطل؟
الجماعة جماعة حق.. وبعد ذلك يأتي من قول عن الحسين: لعن الله أمة قتلتك..! ما علاقة الأمة بما فعل الحاكم وجماعة من أنصاره؟
قضية التغرير والتحوير بالنص هي القضية الخطرة، والفهم المناسب للزمان والحاكم هو الذي يسود، مع أن الإمام الحسين عليه السلام قال: ما خرجت إلا من أجل سنة جدي… وكل آل البيت لم يطلبوا خلافة، لأنهم اختصوا بالإمامة لا الخلافة، ويأتي اليوم من يدّعي الخلافة والحكم لآل البيت… ويقاتلون من أجل الخلافة.. الإمامة تبقى على العالمين، والخلافة تنتهي بانتهاء حياة الحاكم والخليفة.
ولننظر إلى سليمان الذي قال: «ربي هب لي ملكاً» وأعطاه، فهل نجد اليوم من يقول اللهم صل على سليمان.. بينما سيدنا إبراهيم قال: «واجعلني للمتقين إماماً»، فالإمام صاحب الرسالة والحكمة، والخليفة صاحب الملك والقانون والنظام، وشتان ما بينهما… الحكمة تبقى على الزمن والقانون يزول بزوال واضعه.
هذا الفهم الخاضع للأهواء هو وراء الصراعات المذهبية التي تعيشها الأمة اليوم، فما بين سنة وشيعة وسنة وسنة، وشيعة وشيعة عن الإمامة والخلافة والحكم شيء باطل لم يكن في خاطر العلماء والأئمة.
كفى أيها الناس..
لم يكن ما تتقاتلون به اليوم في خاطر أحد من أسلافنا من آل البيت وغيرهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها».
أما ما يحدث اليوم من اختلاف، فلأنهم درسوا الأحكام وتركوا الحكمة.
الحكمة تمنع الإنسان من أن يستخدم القوة والسطوة، وتقربه من الكلمة الطيبة.
غاية الدعوة والدين ليست في خدمة المذهب والزمان والسلطان، بل للذكرى والتذكير بجوهر الوجود، وأتوجه إلى علماء الأمة أن يمتثلوا أوامر الله عز وجل، وأن يكونوا قدوة، وأن يفهموا النص القرآني الذي كان حاسماً وحازماً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم «ولو تقوّل» وأن يرى واحدنا أنه معني وبصورة مباشرة في الامتثال، والنص القرآني للاقتداء والتطبيق، لا للقراءة والترنم وخدمة الذات والمصلحة.