أعلى صوت سوبرانو في العالم .. ربى الجمال.. تفرّدنا الغنائي الذي خسرناه باكراً
| أحمد محمد السح
«صعبها بتصعب» وهو الألبوم الوحيد الذي ضم أعمالها الخاصة.
عرف السوريون الفنانة ربى الجمال في تسعينيات القرن الماضي حين كان التلفزيون السوري ينقل أغاني من حفلاتِ الفنانين، وكانت ربى الجمال من بينهم، فوجدوا أمامهم فنانةً في غاية الجمال، واستمعوا إلى صوتٍ لا يمكن أن يمرّ من دون أن يسكن الأحاسيس ويتركّز في الذاكرة، اشتهرت أغنيتها (صعّبها بتصعب) وعرفها الجمهور وهي تصدح بكلثومياتٍ وروائع الطرب بروح جديدة، وصوتٍ خارق. لم يعرف السوريون الكثير من التفاصيل عن هذه الفنانة فالبهرجة وصناعة النجومية لم تكونا يوماً من اشتغال التلفزيون السوري، فقد اكتفى بنقل الحفلات وذكر الاسم الذي انتبه السوريون أنه اسمٌ فنيٌ لفنانةٍ من أصولٍ حلبية لأمٍّ لبنانية وجذورٍ أرمنية اسمها الحقيقي (زوفينار قرة تبيان) ومن مواليد 1966، درست الطب البشري وتخصصت بطب الأطفال في باريس، ولكنها حين بدأت العمل اتجهت إلى الفن ولم تمارس الطبّ مطلقاً، وكانت قد اعتمدت مطربةً في الإذاعة في عام 1979 أي في سنٍ مبكرة جداً، وكانت قد اختيرت كأقوى صوت نسائي في العالم ونالت لقب سيدة الرقي والأناقة، لها ألبوم واحد بعنوان «صعبها بتصعب» وهو الألبوم الوحيد الذي ضم أعمالها الخاصة منها (فاكر ولاناسي)، (صعبها بتصعب)، أما باقي تسجيلاتها وحفلاتها فمعظمها عبارة عن حفلات طربية تألقت فيها بإعادة غناء مجموعة من أغاني أم كلثوم وأسمهان. وكانت بصدد إصدار ألبوم (ليالي العمر) مؤلف من أربع أغانٍ خاصة بها، لكن العمر الشقي كان قد انتهى قبل إصدار الألبوم.
استطاعت بسهولة أن تصيب مواقع في اللحن لم تستطع كوكب الشرق أن تصيبها من قبل.
كان ظهور ربى الجمال كالشهاب في سماء الفن، فقد امتلكت صوتاً عبقرياً جمع مميزات صوت أم كلثوم وأسمهان؛ وقد امتلكت حبالاً صوتيةً قصيرةً جداً، وهذا سرّ قوة صوتها وحيويته، ويقول الناقد الموسيقي صميم الشريف: «حين غنت ربى الجمال أغنيةً «هو صحيح الهوى غلاب» من ألحان زكريا أحمد استطاعت بسهولة ويسر أن تصيب مواقع في اللحن لم تستطع كوكب الشرق أن تصيبها من قبل» فقد كان لصوت ربى الجمال السوبرانو القوي القدرة على الإحاطة بما يزيد على أربعة عشر مقاماً موسيقياً، عرفها الجمهور بشكل أوسع مع الفنان وديع الصافي في حفلٍ كان مخصصاً لتكريم الموسيقار محمد عبد الوهاب، حينها أعجب بها الجمهور وشهد لها الفنان وديع الصافي بقوة صوتها كما شهد لها كل من عرفها من الموسيقيين والملحنين الذين تعاملوا معها من أمثال سهيل عرفة ورياض البندك، وماجد زين الدين وسواهم كثيرون.
رفض الوالد مدة طويلة أن تدخل ابنته مجال الفن
عرفت تقنيات في الغناء منذ سنّ الثالثة والنصف حين اكتشفها أستاذ لها في الموسيقا وعلّمها كيف يتنفس المغنّي من بطنه لا من صدره أثناء الغناء، وقد حرصت على كل كلمة تغنيها وكانت تعترض على أي نغمةٍ أو كلمةٍ لا تستطيع قولها وهي لا تحسّ بها، مع الحرص على دماثة أخلاقها إلا أنها لم تتنازل في تجربتها الفنية، فقد كانت تفضل الجلوس في بيتها على أن تغنّي أي شيء تجاري، وكان إحساسها أنها ستكون فنانةً طوال حياتها، رغم معاناتها في الظروف الإنتاجية وهي الحريصة على أن تقدّم فناً صافياً يقدّم الفائدة للذائقة الفنية للناس، حيث كانت تشرّبت هذه الحالة الفنية من والدتها التي كانت تقول إنها تمتلك صوتاً أوبرالياً، وكان والدها موسيقياً، لكنهما لم يحترفا الفنّ، فقد انتسبت إلى عائلة محافظة كان معيباً أن تنطلق في الفن والغناء، وتذكر الفنانة ربى الجمال أن أستاذها الذي اكتشفها في سن الروضة، عاد وانتزعها من أسرتها بعد صراعٍ كبير مع والدها ليعيد هذا الصوت إلى الفن والتدريب، فقد رفض الوالد مدة طويلة أن تدخل ابنته مجال الفن لأنه كان مقتنعاً أنه طريق غير آمن لأي إنسان. غادرت لبنان إلى الأردن مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، ودرست في مدرسةٍ كنسية، رسبت في الثانوية العامة أول مرة، وعاشت فترة صعبة من عدم الاستقرار في حياتها الشخصية والفنية، لتعود بعدها إلى دمشق وتبدأ إحياء الحفلات بدءاً من عام 1979، ظل والدها معترضاً على انتقالها للفن حتى بعد انتهائها من دراسة الطب في باريس. حرصت ربى الجمال على الغناء وفق فهمها للأغنية وتمازج الكلام واللحن فقد كانت تجد في الأغنية سؤالاً وجواباً، أي إن الكلام المغنى لا يجوز أن يدخله أو يقطعه اللحن الموسيقي في أي وقت، وتنكر حالة وجود اللوازم الموسيقية في أي وقت من دون أن تكون رداً أو جواباً على الكلمات، هذه اللوازم التي بدأت تظهر في التوزيع الموسيقي الحديث وقتها، وكانت هذه الثقافة الموسيقية ناجمة من دراستها الموسيقية المتواصلة لسنوات عديدة، وهذا ما جعل اختياراتها الموسيقية صعبة في الكلام واللحن. فقد كانت تجد أن ألحان الموسيقار رياض السنباطي هي ما يمثّل رؤيتها وفهمها للغناء الطربي الأصيل، وهذا ما زاد من صعوبة اختياراتها.
كانت ترفض التقليد الأعمى للموسيقا الغربية، وتجد أن بعض الأغنيات تنحدر في الموسيقا وتتسبب في نعية الموسيقا العربية، وحرصت على وجود رقابة تحافظ على المبادئ الشرقية للأغنية العربية، لتصل إلى سموّ أهدافها، كانت حريصةً على كل كلمة حتى إنها طلبت من الشاعر المصري مأمون الشناوي تغيير كلمة، وكانت تخاف أن يحصل معها ما حصل مع أم كلثوم حين طلبت منه تغيير كلمة (اكتبلي) إلى (ابعتلي) في أغنية الربيع التي غناها بعدها فريد الأطرش، وكانت هذه الأغنية أغنية «شوف الدنيا» التي لحنها لها وديع الصافي، وكان قد لحن لها عدداً كبيراً من الأغاني.
حضر تشييعها ما يقل عن عشرين شخصاً
توفيت في 13 نيسان عام 2005 إثر إصابتها بسكتة دماغية. وقد كان لوفاتها فاجعة التصقت بمشكلة حفلة غنائية أقامها التلفزيون العربي السوري في فندق إيبلا الشام في الثالث عشر من آذار 2005 ودعي إليها مجموعة من الفنانين السوريين وكان ماجد سراي الدين يقوم بقيادة الفرقة، لكن ربى الجمال لم تستطع الوصول إلى السلطنة مع أربع أغنيات كان قد حضّرتها لهذا الحفل، وبعد مشادات عدة على المسرح مع الفرقة الموسيقية التي لم يستطع العازفون فيها اللحاق بصوت ربى الجمال، وظل عزفهم أكاديمياً لا إبداعياً، ومع بداية الأغنية الثالثة لها توقفت فجأة عن الغناء، أصيبت بجلطة دماغية أصابت مركز النطق في الدماغ لكنها قاومت وصمدت شهراً كاملاً كانت كلها أمل أن تعود للغناء، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، وقد حضر تشييعها ما يقل عن عشرين شخصاً، من بينهم الراحل الكبير رفيق سبيعي والموسيقي هادي بقدونس، والشاعر موفق العنداني، الذين أبدوا تأثرهم لرحيلها والإهمال الذي تعرض له صوتها في الحياة، وجثمانها في الممات. فقد تكفلت جمعية أرمنية خيرية بتقديم قبر مجاني لها، وبذلك خسرنا فنانة كان من الممكن أن تكون سداً منيعاً في وجه الانحدار المتواصل الذي تعانيه الأغنية العربية كلاماً ولحناً، فلروح ربى الجمال السلام أين هي اليوم مما نسمعه من أغانٍ.