سمة الحزن في الأغنية العراقية أثر البيئة والتاريخ … النكبات والنوائب والحروب على أرض العراق رسمت معالم الشجن
| د. رحيم هادي الشمخي
المستمع للأغنية العراقية وعلى مرّ العصور، يجد أن عنوانها الرئيس وصيغتها الأساسية وثوبها الأزلي هو الحزن المصحوب بالشجن سواء كانت جنوبية أم غربية أو شمالية أو كانت الأبوذية أو الزهيري أو بستة غنائية، فتجدها في كرنفالات الفرح متألقة بشجنها، فما السر في ذلك؟ ومَنْ أسس لتلك الأهرامات المبنية من صخر الصبر والتأسي؟ فهل الشجن في أغنيتنا محض مصادفة أم إنه ألق من ملحمة جلجامش دوّنته مسلة حمورابي وجعلته أحد بنودها الثابتة التي لا يمكن تجاوزه، أم إنه نابع من تراتيل العشق بين «أنانا» و«سيدوزي»، لذا تجد العراقي حتى في أسعد لحظات الزمن الجميل وفي قمة ترف الحياة التي يعيشها لا يطربه ويثلج صدره غير الشجن.
النموذج وكلمة «صراخو»
بحث موسع نشر في مجلة التراث الشعبي البغدادية في العام 1982 بقلم الدكتور فوزي رشيد، يشير إلى سر تلك العلاقة، حيث يقول: إن هناك إشارات تؤكد أن الألحان السومرية القديمة تحمل في طياتها طابع الحزن والنوح، من تلك الإشارات أن العلاقة المسمارية الخاصة بكلمة أغنية التي تلفظ باللغة السومرية «شير» قد اقتبسها الأكاديون وعبّروا بواسطتها عن الفعل «ينوح» الذي معناه باللغة الأكادية «صراخو»، وكذلك عن الفعل يغني الذي لفظه ومعناه بالأكادية «زماروا» وهذا ما يدل على الشبه الكبير الذي كان موجوداً في العصر السومري القديم بين الغناء والنوح، وإلا فلماذا دون الأكاديون الفعليون بالعلاقة السومرية الخاصة بكلمة أغنية، وعلى سبيل المثال يقول رشيد إن هناك الأغنية العراقية الشهيرة «عيني وما عيني.. يا عنيد ييابة» التي ألّفها ولحّنها وأدّاها الفنان العراقي «حضيري أبو عزيز» وهو من محافظة ذي قار «الناصرية»، في الجنوب السومري من العراق، وهذه الأغنية كتبت وغنّيت ولحّنت وفقاً لإحدى الطرق السومرية التي تتمثل في تكرار شطر البيت الأول في جميع أبيات القصيدة وقد ظهر هذا الأسلوب بالأداء في الألف الثالث قبل الميلاد.
الحزن بأيام الفرح
من هذا المنطلق يتبين لنا أن الشجن في الأغنية العراقية هو موروث سومري بامتياز، والدليل الدامغ هو كلمة «ينوح» التي نستخدمها الآن وما يقابلها بالأكادي هي كلمة «صراخو» وكلمة يغني منبعها الأكادي وأصلها «زماروا» التي تشير إلى «الناي» وهو لسان الشجن الأكادي، وهذا الموروث السومري والأكادي الذي أصبح لصيقاً دائماً بالعراقي لم يستطع التخلص منه على الرغم من دخول الجيوش العربية الإسلامية للعراق، فبعد أن أصبح العراق عاصمة للدولة الإسلامية قام بإدخال ذلك الموروث حتى في الإسلام من خلال المنشد، أو ما يسمى الرادود في مواكب العزاء الحسيني، وخاصة في طقوس النوح الذي يستثير بكاء المستمعين في نهاية المحاضرة الدينية لرجال الدين، وهذه الطريقة التي تسمى «النعي» والمستخدمة حتى الآن تشابه إلى حد كبير ما كان يفعله مغني «الكالا» السومري القديم وصولاً إلى عصرنا الحديث إذ لم يستطع العراقي الهروب من صاحبه الشجن، حيث ذهب أغلب الباحثين العراقيين ومنهم الدكتور حسين سرمك حسن، إلى أنه رغم حالة الاستقرار والاسترخاء التي عاشها العراق في سبعينيات القرن الماضي، فإن فناني هذه الفترة لم يستطيعوا عكس هذه الفترة بأغنياتهم، بل إن سمة الحزن التي كانت الأبرز في هذه الأغاني أثبتت أنها معششة في الآذان العراقية وليس من السهل استبدال أغان تدل على الفرح بها.
أول أغنية في التاريخ
هذا يعني أنه مع استمرار الحياة وتزاحم الحروب والنوائب والنكبات على سكنة هذه الأرض، ازدادت، بل تجددت أغاني الشجن لترسم صورة الواقع الذي يعيشه العراقي ويحاول أن يصمد ويصارع الهم ويتأسى بشجن القيثارة السومرية من أجل صنع الحياة التي يريد، لتبقى أزمات الحزن ملازمة للأصوات الشعبية التي تملأ الساحة الغنائية، فهذا يصيح «ياويلي» وآخر يصيح «يابه» وثالث يهتف «بوياي» وهاتف ينادي «ويلاه.. ويلاه» و«آحاه منك يا زماني» وجميعها تؤكد سر العلاقة بين الشجن والأغنية العراقية، والشجن السومري يفرض وجوده في أول أغنية عاطفية عرفها التاريخ وعمرها خمسة آلاف عام، وعثر على مخطوطة في أهوار سومر في «الناصرية» في لوح طيني وبعض مقاطع تلك الأغنية السومرية العراقية تقول: «وسيم أنت جميل حلو كالعسل أيها الأسد، حبيب أنت في قلبي، وسيم أنت جميل، حلو كالعسل أيها العروس، لقد تمتعت وابتهجت معي، أمي ستقدم لك الطيبات وأبي سيغدق عليك الهبات، روحك أنا أدري كيف أبهج، روحك أيها العروس، اغف في بيتنا حتى الفجر».