خيارات تركيا بعد عفرين
| أنس وهيب الكردي
انقلبت صورة الجيش التركي بسبب عملية عفرين رأساً على عقب، بعد تلك التي ارتسمت له قبل عامين، عندما تكبد جنوده خسائر فادحة بالأرواح والعتاد خلال تنفيذهم عملية «درع الفرات» ضد مسلحي تنظيم داعش المسيطرين على الشريط الحدودي ما بين بلدتي جرابلس وإعزاز بريف حلب الشمالي.
لم تعبأ أنقرة على الإطلاق باعتراضات واشنطن، التي ظلت لفظية بأحسن الأحوال، على عمليتها في عفرين، وضربت بعرض الحائط القرار 2401 كما واجهت بغطرسة لا مثيل لها المواقف الأوروبية المنتقدة للحملة، ووجهت ضربات مباشرة للمجموعات المسلحة التي دخلت المدينة دفاعاً عنها في مواجهة هجوم مليشيات «الجيش الحر» مدعومةً بالجيش والطيران التركيين، تنفيذاً لاتفاق بين قيادة «وحدات حماية الشعب» والحكومة السورية رعته طهران، واستند الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ذلك إلى اتفاق بلاده مع روسيا، الذي وفر مظلة قوية للعملية التركية في منطقة عفرين.
أضعفت عملية عفرين الولايات المتحدة في سورية، وخصوصاً أنها تسببت بزعزعة الثقة ما بين واشنطن وحلفائها في «وحدات حماية الشعب»، وأظهرت موسكو بمظهر المتحكم الكبير بديناميكيات المشهد السوري، والمتلاعب بتوازناته، وهو ما ينبئ بما سيكون عليه الوضع إذا قرر الروس المضي قدماً في برنامجهم لإخراج، أو على الأقل، زعزعة النفوذ الأميركي في شرق سورية وجنوبها، كما حرّكت العملية المفاوضات ما بين أنقرة وواشنطن حول ترتيبات الشمال السوري، والتي تعثرت خلال الأشهر الماضية ووصلت طريقاً مسدودةً.
تركزت هذه المفاوضات حول مستقبل منبج بريف حلب الشمالي والواقعة في منطقة غرب نهر الفرات، وتنتشر في كبرى مدن الريف الحلبي على الإطلاق، قوات أميركية إلى جانب مقاتلين من «حماية الشعب» ومجلس منبج العسكري العشائري الداخلين في ائتلاف «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، ويعتبر وجود قوات أميركية في منبج مخالفاً لتفاهمات دولية تتبع بموجبها كل المناطق الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات، للنفوذ الروسي.
تقع خيارات أنقرة، وقد اقتربت المرحلة النهائية من عملية عفرين، ما بين توسيع ساحة مناورتها في سورية عبر تحقيق تقارب مع واشنطن، يتصف بأنه محدود ولا يؤثر على روابطها المتوسعة مع روسيا ويفتح الباب أمام دمج مساري جنيف وسوتشي، ومن المستحيل أن يظل أي اتفاق أميركي تركي حول منبج ثنائياً، إذ من المؤكد أنه سيتحول إلى ثلاثي يضم روسيا، خصوصاً في ظل وجود القوات الروسية في بلدة العريمة المشرفة على الطريق الدولي ما بين مدينتي منبج الخاضعة للنفوذ الأميركي، والباب الخاضعة لسيطرة مسلحين مدعومين من أنقرة.
أما الخيار الثاني المتاح أمام تركيا، فيتمثل في تعزيز انخراطها في مساري أستانا وسوتشي، وتوفير دعم نشط لمقاربة روسية إيرانية متشددة لطرد الولايات المتحدة من شرق سورية، ولكن يبدو أن تركيا بصدد طرق الخيار الأول، إذ تسربت أنباء عن توصل رئيس الدبلوماسية الأميركي ريكس تيلرسون مع نظيره التركي إلى تفاهم بشأن منبج، وقد يكون الهدف من زيارة مولود جاويش أوغلو إلى موسكو عرض هذا الاتفاق على المسؤولين الروس.
يدرك المسؤولون الأتراك بأن خيار بلادهم ليس ما بين واشنطن أو موسكو، فكلا العاصمتين ستحتفظان بوجود عسكري قوي في العراق وسورية على المدى الطويل، لذلك، يتمثل خيارهم في تحسين العلاقات بشكل مزدوج مع الروس والأميركيين ودفعهما لمراعاة مصالح تركيا في الهلال الخصيب، وبالنسبة للأتراك الخيار الحقيقي هو ما بين مواجهة إيران أو مهادنتها، وما دامت واشنطن ملتزمة بموقف شديد العداء حيال طهران فلن تعمل أنقرة أكثر من مواجهتها حيثما تتضارب مصالحهما، وجني الثمار من علاقاتهما التجارية الكبيرة، وعندما تنتهي تركيا من تقريب واشنطن وموسكو إلى رؤيتها للهلال الخصيب ستعمد أنقرة عندها إلى مواجهة لا هوادة فيها للمصالح الإيرانية في سورية والعراق، مصادقةً جميع الأطراف المنزعجة منها، وما أكثرهم.