مجد الإنسان والعلم
| إسماعيل مروة
بالأمس فارقنا عالم الفيزياء في القرن العشرين«هوكينغ»، على كرسي متحرك، وبابتسامة ذكية تقهر العجز، عاش نصف قرن من زمن، حمل أكبر الشهادات، ولم ينادَ يوماً بغير اسمه، لم ينادَ بالشهادات لأن اسمه كان أكبر من كل شهادة، وما قدمه للعلم والعالم والفيزياء والنسبية أعظم من أي بحث أو باحث، وحول ما قدّمه صارت تنعقد الأبحاث والشهادات.
في مكانه وعلى كرسيه جاءت المرأة التي اختارته لتكون حياته… وعلى كرسيه أنجب أولاداً مهمين قالوا برحيله فقد العالم عالماً، وفقدنا أباً مميزاً مرحاً.
في مكانه وعلى كرسيه جاءه سادة العالم وحكامه، تبركوا به وتباركوا، وكان يشيح بوجهه عنهم، هم يتابعونه، وهو ينظر إلى الثقوب السوداء ويرى الساسة انعكاساً لكل سواد الثقوب… يحتفون به ولا يحفل بأحد.
راهن الأطباء على رحيله قبل نصف قرن ويزيد، رأوا أنه لن يعيش إلا أياماً أو أعواماً قليلة، وجلسوا ينتظرون رحيله، لكن روح العلم والتواضع والمرح جعلته يتحدى الطب والمرض، ويقهر كل ظرف… ليس غريباً فالقدر هو من صنع الإرادة، والعزيمة، وأي قول آخر هو من الضعف والعجز.. قهر المرض، قهر العجز، وبقي دماغه، واستنارت عبقريته الفذة، وعلى كرسيه أعطى النسبية بقدر لم تصله بعد إينشتاين إلا على يديه، واكتشف واخترع وألّف، وعاش حياة أقل ما يقال عنها إنها كانت حياة غنية.
بشار بن برد عاش حياة غنية ولم يمنعه العمى، وبقي بيننا
المعري وابن سيدة عبقريان لم يحل العمى بينهما وبين العبقرية والكشف والاكتشاف.
عبيد بن الأبرص لم يمنعه برصه أن يكون لسان قومه والمدافع عنهم.
طه حسين لم يحل العمى بينه وبين شهادتي دكتوراه، وبين الترجمة، وبين الصحافة، وبين رؤى نظرية لا تقل عن النسبية.
ابن برد تبرّك به الحكام، والمعري وابن سيدة قدّما، وعبيد كان سيداً، وطه حسين كان محط اهتمام كل سياسي.
أما رأينا كيف ذهب كلينتون للقاء عالم النسبية والثقوب السوداء، وكان فرحاً أن القدر أتاح له لقاء عالم من هذا المستوى؟ أما رأينا طه حسين كيف يسعى إلى جلساته نجيب محفوظ وعبد الرحمن بدوي، وعبد الرحمن الشرقاوي؟ أما رأينا كيف سعى إليه جمال عبد الناصر وغيره من الساسة؟
إذا كانت التقانة والحضارة قد حرمتنا رؤية الحكام والساسة مع ابن برد وعبيد والمعري وابن سيدة فإن الأخبار نقلت إلينا صورة كلامية.. مع أنني لست علمي التخصص إلا أنني كنت أتابع عالم الفيزياء على كرسيه في كل ظهور واكتشاف، وتابعت بشغف الفيلم الذي أنجز عن حياته وعلمه، فدخل في كل تفصيل تلافيف الدماغ، وسألت نفسي وأنا أتابع ما تناقلته الوكالات عن متابعته للفيلم الذي أنجز عن حياته، وكانت علامات الرضا على تعابيره تقول: إنه مجد العلم، مجد الإنسان، هذا المجد الذي لا يدانيه مجد… قد يختلف الناس حول رجل سياسة، قد يختلفون حول عالم دين، قد يختلفون حول رجل اقتصاد، لكن العالم كله لا يختلف حول عالم أعطى العالم حياته وخبرته، وقاس وعانى.. لا يختلف اثنان على أديسون أو نيوتن أو إينشتاين، ولا يختلف اثنان على عبقرية شكسبير أو توماس مان أو هوغو أو نزار قباني أو ماركيز… لا يختلف أحد مع أحد حول العبقريات من الغزالي إلى ابن عربي إلى كانط ونيتشه.. العبقرية يتفق الناس كلهم على احترامها والارتفاع معها وبها وإليها، وحدها السياسة تختلف معهم فتجلد ابن برد، وتعذب ابن المقفع، وتنكل بالسهروردي وابن عربي، وتتهم المعري وطه حسين، وتظلم أفلاطون، وتشوه صورة نزار قباني..! وحدها السياسة تفعل كل ذلك، لكنها تعجز، وتبقى العبقرية شاهدة، وتستمر العبقرية لا تعترف بدين أو عاطفة أو طائفة أو مذهب، وحده العبقري يمنح الجميع ولا يحصر عطاءه في جماعته، وما عداه يتوجه إلى جماعة أو منطقة أو طائفة أو مذهب.
إينشتاين للكون… وبسمارك لألمانيا
دستوفسكي للإبداع… ولينين للروس
المتنبي للإنسانية… وسيف الدولة للحمدانيين
إنه مجد الإنسان الذي يحتفي بالعبقرية، ويجعلها الخبر الأول على كل قلب ولسان وعقل، إن مجد التفوق والانعتاق والعالمية الذي لا يحصر عالم الفيزياء هوكينغ على كرسي العجزة، ولا يحصره في مأوى.. فمأواه يضيق الكون عن الاتساع له!
فهل يحصرنا كون واسع ومكتسباته!
أم يصل بنا كرسي عاجز إلى قبة المجد؟