ثقافة وفن

الدور الدمشقية عناق أرواح ومستراح جسد … التناظر والتنسيق أعطاها خصوصية عن دور العالم فكانت هوية المدينة

| منير كيال

لعل من نافلة القول، الإشارة إلى توافر عدد ليس بالقليل من الدور الدمشقية التي كانت تضم كامل الأسرة، كالأبوين والأولاد وزوجاتهم والأحفاد، ويعيش الجميع في الدار الواحدة في نعيم من الود والوفاء والإيثار فضلاَ عن المحبة والاحترام المتبادل بين الجميع وإذا كان بناء هذه الدور متأثراً بالعمارة العثمانية والفارسية والغربية، فقد كان طابعها إسلامياً.
أما السمة المميزة لهذه الدور فهي في تشابه مخطط بنائها وتماثل نسيجها العمراني وإن تباينت المساحة التي تشغلها هذه الدور.
ومن ثم فإن الداخل إلى الدار الدمشقية لابد أن يلحظ الأقسام التالية بهذه الدار وهي:

باب الدار البسيط ثم الدهليز، فأرض الديار والليوان (الإيوان) وكذلك القاعات أو الغرف الصيفية والغرف الشتوية، وقد اتخذت أسماء متعددة نذكر منها:
المربع والمخدع والنصفية والقاعة والأوضة أو الغرفة والفرنكة ثم هنالك الصاليا والغرفة العلوية التي على السطح وهي المعروفة باسم الطيارة.
وكان الواحد يلحظ إذا تجول بأحياء مدينة دمشق القديمة تعانق هذه الدور وتداخلها وتراكبها، كما يلحظ عدم العناية بمظهر هذه الدور الخارجي، على عكس ما هي عليه الحال بداخل كل من هذه الدور، وعلى ذلك فإن مدخل الدار الدمشقية أو ما يعرف باسم باب الزقاق لا يدل على روعة ما عليه هذه الدار من الداخل، إلا ما كان من مداخل دور الولاة وأولي الطول والسطوة الذين كانوا يعنون عناية تامة بمظهر دورهم الخارجي.
وهكذا فقد تميزت الدار الدمشقية بباب زقاق بسيط يعقبه دهليز أو معبر طوله بضعة أمتار مع الانعطاف بحيث لا يرى الناظر ما بداخل الدار من فن للعمارة إضافة إلى سكان هذه الدار وهذا بدوره يحجب أنظار المارة عن داخل الدار، فضلاً عن ذلك فإن سقف وجدران هذا الدهليز لا يلحظ فيه المرء ما يلفت النظر من فنون البناء، لأن وظيفة هذا الدهليز إنما هي التمهيد للدخول إلى باحة الدار المعروفة باسم: أرض الديار.
وأرض الديار هذه تنفتح أمام الداخل على مساحة واسعة لمشهد بهي يضم غراس الشمشير والورد والفل والياسمين والنانرج والكباد فضلاً عن عرائش العنب المتعددة الأنواع، وذلك علاوة على نوافير المياه التي تتشامخ عبرها المياه لتصب بالبحرة أو البركة التي تتوسط أرض الديار، فأرض الديار في الدار الدمشقية والحال هذه تعتبر من الأركان المهمة في حياة سكان هذه الدار، فهي جنتهم ومتنزههم وملاذهم.. وعلى ذلك فهي موضع عنايتهم من نواح عدة، أكان ذلك من حيث النظافة أم من حيث العناية بغرسها بالغرائس والأشجار المثمرة من الحمضيات والعنب إضافة إلى أشجار ونباتات الزينة، وأرض الديار هذه مفروشة بدروب من الحجر الأسود النحيت المتناوب مع الحجر الوردي المعروف باسم المزي أي المزاوي (نسبة إلى المزة)، أما ما حول البحرة التي تتوسط أرض الديار فمفروش أو مبلط بتشكيلات من الرخام المشقف الزاهي الألوان.
وبأطراف أرض الديار نجد أغراس الورد والياسمين والغراس الأخرى التي أشرنا إليها.
أما جدران أرض الديار فهي مزينة أيضاً بزخارف وتزيينات زخرفية فضلاً عن بناء هذه الجدران بأسلوب البناء المعروف باسم الأبلق من حيث تناوب مداميك (دروب) البناء بألوان الأحجار، ونجد فوق النوافذ والأبواب المطلة على أرض الديار زخارف على شكل أقواس زخرفية مقرنصة، أو زخارف نباتية، أو على شكل تيجان مزخرفة ويحيط بهذه التزيينات خيط من الحجر الأبلق المضفور.
ومن جهة أخرى لابد من الإشارة إلى التناظر في توزيع الأبواب والنوافذ بحيث يشعر المرء بالارتياح. ونجد في صدر (جهة الجنوب) أرض الديار ما يُعرف باسم الليوان، ولهذا الليوان (الإيوان) أهمية كبيرة عند أهل الدار لكونه ملتقى لهم، وخاصة بأيام وليالي الصيف، حيث تهب نسيمات من الهواء المنعش اللطيف من جهة الشمال، وغالباً ما يكون عن يمين ويسار هذه الأبواب غرفة مفروشة تسمى القاعة، وهي غالباً ما تكون للاستقبال، وخاصة بالمناسبة وبصورة عامة فإن الليوان بالدار الدمشقية يكون مفتوحاً على أرض الديار ويرتقى إليه بدرجة أو درجتين، ويرتكز سقفه من الناحية المطلة على أرض الديار على قوس عالٍ من الحجر النحيت المزخرف ومن ثم فإن هذا السقف غالباً ما يكون مكسواً بما يعرف باسم الطوان المغطى بطبقة من الكلس المطفى مع قشر القنب المفروم.
أما القاعات بالبيت الدمشقي فمنها ما كان لقضاء فصل الصيف ومنها ما كان لفصل الشتاء وكان من أميزها القاعتان اللتان على جانبي الإيوان اللتان ورد ذكرهما، وقد يكون بهذه الدار قاعة كبرى أخرى تطل على أرض الديار وهي بالطابق الأرضي.
ولابد من الإشارة إلى العناية المتميزة بقاعة الاستقبال أكان ذلك من حيث الزخارف التي تتميز بها كسوتها الخشبية المعروفة باسم الحلقة الخشبية فضلاً عن زخارف سقفها الذي غالباً ما يأخذ شكل سجادة عجمية لكثرة زخارفه المتناظرة والمتناوبة.
ومن الممكن القول إن القاعات أو الغرف المخصصة لقضاء فصل الصيف تكون مطلة على جهة الشمال من أرض الديار، أما القاعات الشتوية فهي تطل على جهة الجنوب من أرض الديار بحيث تستقبل أشعة الشمس، الأمر الذي يقلل من وطأة برد الشتاء.
والقاعات التي تكون للاستقبال غالباً ما تكون مكسوة بالحلقة الخشبية التي تغلف الجدران إلى ما فوق إطارات الأبواب والنوافذ فضلاً عن الكتابي، أما الأسقف فتكون مكسوة بهذه الحلقة، ونجد أن الأسقف بالقاعات الكبرى مكسوة بوحدات زخرفية يطلق على الواحدة اسم الطزر وهذا الاسم تحريف لكلمة طراز أو نمط، ويشكل كل واحد منها مجموعة زخرفية متكاملة تحاكي المجموعات الأخرى (الطزرات) التي بالسقف الواحد للغرفة، وبالطبع فإن كسوة السقف (الطزر) والجدران مكسوة بالدهان، وهذا الدهان يكون على طزر (وحدات) السقف لماعاً، أما في الجدران فيكون عديم اللمعان لأنه دهان ترابي أي مستمد من التراب، وإذا كان دهان السقف يأخذ بزخارفه ما يشبه السجادة العجمية فإن دهان الجدران غالباً ما يكون لأشكال زخرفية نباتية فضلاً عن الزخارف التي يطلق عليها اسم الخيط العربي.
وهذه الزخارف أجمل ما تكون، وأكثرها روعة ما كان بقاعة الاستقبال الكبرى، لأهمية هذه القاعة من حيث إنها توحي بما عليه أصحاب هذه الدار من ترف ورخاء، لما تضم كسوة هذه القاعة من رسوم لأغصان النبات والأزاهير وحفر وتنزيل بالخشب من صدف أو قصدير وبما يربط زخارف دهان الأبواب والكتبيات من أطباق تخطف نظر المشاهد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن