«تجرنبة» مصرفية جديدة!
| علي محمود هاشم
سوى الجاحد، لا يمكنه إدارة ظهره لتلك المرونة الطارئة التي بدأت التسلل إلى جسد القطاع المصرفي مدفوعة بأفشل ما يمكن تصوره من منتجات تم إطلاقها على مدى العامين المنصرمين من عمره.
خلال الأسابيع الأخيرة، قُوربت ثلاثة مستويات «هدف» لأسعار الفائدة المصرفية، وفي سياق «إنكاري» للفشل الذي خاضته -حتى ركبتيها- سياستنا الإقراضية المتظللة بشعارات «دارت العجلة.. ها قد صدّرنا.. »، ذهب القائمون على فشلنا ولو بتمرير قرض إنتاجي واحد إلى الاقتصاد الوطني، نحو تراجع إعلامي متمرحل بنسب الفائدة الجديدة: من 14 إلى 12%.. فـ10%.. ونهاية الأسبوع الماضي، نقل عن اجتماع مع أصحاب منشآت منطقة «تل كردي» الصناعية أنها قد تكون بين 8 و10%.
يبدو الوقت مناسباً للهبوط عن صهوة الفائدة العالية ملاقاةً لـ«السياسة التصديرية» الجديدة التي طورتها الحكومة قبل أيام عن نسخة 2016، تماشياً مع افتضاح الفقر المتغلغل في التبادل التجاري خلال 2017: تزيد على 6 مليارات دولار مستوردات من ضمنها النفط والمشتقات النفطية (يزيد على 4.6 مليارات دولار من دون نفط ومشتقات) «رغم التراجع الكبير في استيراد النفط»، وأقل من 700 مليون دولار صادرات «رغم احتفاليات التصدير الغزيرة»!.. لا بل حتى الشق الأخير، ووفق لوائح الدعم التصديري لمعروضات «دمشق الدولي»، فما زال عالقاً عند «المخللات والمكدوس ودبس فليفلة..» إلى جانب بعض السلع التي لم ينقطع مرورها التقليدي عبر الحدود: كالألبسة وزيت الزيتون والتوابل!..
في النتائج المتوقعة، ورغم الآمال المعلقة على الهبوط به إلى 8% كتمديد ملطّف للسياسة الانكماشية، فلن يتأخر سعر الفائدة المصرفية «المرتجى» عن إعلان عجزه حيال تحرير الإنتاج الوطني الكامن «الصناعي تحديداً» من حالة الاندفاع الذاتي التي تقبض على تعافيه، بالتزامن مع مؤشرات تتمتع بمشروعية كافية وتفيد بأن قطاع الإسكان سوف يكون الأوفر حظاً في استقطاب القروض مستفيداً من مرونته الحالية، وهو ما سيصب في معظمه – للأسف- ضمن قنوات المضاربة تبعاً لانقطاع الأمل التنموي معطوفاً على انقطاع قدرة ذوي الدخول على الإيفاء بأقساط الإسكان العالية، ناهيك عما يؤشر إليه التراجع الكبير في تمرير القروض الاستهلاكية مؤخراً، من استنزاف الرمق الأخير من قدراتهم المحدود!.
ثمة منغصات أخرى ما زالت تتربض بالإقراض الموجه للإنتاج، وبالآمال التصديرية من خلفه، منها متلازمة السقوف السعرية للفائدتين الدائنة والمدينة، إلى جانب محدودية السعة المعلنة للمحفظة الإقراضية في مصارفنا الوطنية بنحو 400 مليار ليرة لا يمكن الارتكاز إليها -على الإطلاق- في إدارة «تعافي الإنتاج» و«التصدير».
إلا أن الأكثر تنغيصاً، يتمثل في معادلة دعم الاستيراد الذي يتلقى اليوم تمويلاً حكومياً كبيراً قياساً بـ«الانتاج»، فدولار تمويل المستوردات راهناً يوازي، وفق أكثر سيناريوهات الهبوط بسعر الفائدة تفاؤلا، الـ«8%» التي ستنتزعها القروض من تنافسية أي مشروع إنتاجي يحاول التعافي عبرها؟.. هذا التناقض المتدحرج باضطراد على جسد التعافي، يتطلب معالجة جراحية ليس هنالك ما يوحي حتى الآن بامتلاكنا الخبرة الكافية لإجرائها!
ما لم تكن «المرونة الحكومية الطارئة» هذه مجرد ضرورة إعلامية تتطلب إطلاق «تجرنبة» مصرفية جديدة، و«تجرنبة» هذه إحدى مفرداتنا الدارجة لوصف التجارب بادية الفشل أيام الثمانينيات، فسيتوجب علينا عصر عبقريتنا لترتيب سياسة تمويلية أكثر قدرة على تمثل التغيرات العميقة التي طرأت على مجمل مناحي الاقتصاد خلال الحرب، وإلا، فكما أوفت الأسواق بوعدها الذي قطعته إحجاماً عن المنتجات المصرفية الخفيفة التي تم عبرها تقطيع وقت الإنتاج والتشغيل خلال العامين الماضيين، فلن تتأخر عن الاستجابة بمثله لإستراتيجيات أقل خفّة بقليل.