قمة العنصرية في شعار ترامب «أميركا أولاً»
| يوسف جاد الحق
لم تكن أميركا، في يوم من الأيام، سوى دولة عنصرية النزعة والتوجه، فالأميركي الأبيض «فوق الجميع»، تماماً كما هو شعار الصهيونية «اليهود شعب اللـه المختار»، وكما كان شعار النازية «ألمانيا فوق الجميع» في حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي.
الأميركيون اليوم، هم أحفاد الذين قدموا إلى أميركا إثر اكتشافها من كريستوفر كولومبوس، وكان هؤلاء من خريجي السجون وقطاع الطرق والقراصنة في القرن الخامس عشر الميلادي الذين قاموا على مدى مئتي سنة بإبادة السكان الأصليين تحت شعارهم ذاك، مستخدمين أبشع وسائل القتل والتعذيب دونما إحساس بالذنب أو تأنيب الضمير.
الصهاينة صنعوا في فلسطين على مدى مئة عام مضت، صنيع أميركا ذاته، حيال شعب فلسطين صاحب الأرض منذ أقدم العصور، وما زالوا يفعلون حتى الساعة، في هذا العصر الذي يدَّعي أربابه الغربيون التقدم والتحضر ورعاية الحقوق، والقوانين كذباً وتدجيلاً وذرَّاً للرماد في العيون ليس إلا.
ولأن كليهما ينطلق من المفاهيم نفسها، ويلجأ إلى الممارسات ذاتها فأميركا كانت دائماً تؤيد الكيان الصهيوني دونما تحفظ وبلا حدود، بعد أن كانت المسهم الأول والأهم في إيجاده عام 1948، ثم في تزويده بالسلاح والمال والرجال، والدعم المعنوي في المؤسسات الدولية، فيما هو يفعل بالعرب الفلسطينيين على مرأى من العالم كله ما فعلته هي بسكان أميركا الأصليين.
وإذا كانت أميركا تحاول اليوم أن تخفي هذه الحقائق بوسائلها الدعائية والإعلامية المعروفة، إلا أن مجيء دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة، وهو الرجل المتغطرس الأهوج، الذي يفكر عادة بصوت مسموع، مستهتراً بما قد تتركه تصريحاته وأقواله من انطباعات سيئة وسلبية عن شخصه وعن أميركا، مجيؤه هذا كان مصحوباً بإعلانه في حملة انتخابه وبعدها، على الملأ «أميركا أولاً» في كل شيء يخصها ولا يعني هذا شيئاً غير ما ذهبنا إليه من توجه مغرق في العنصرية لدى ترامب واعتقاده بتفوق العنصر الأميركي على سائر شعوب الأرض، وهو من ثم يبني سياساته وفق هذه الرؤية الاستعلائية المفرطة في الغطرسة والغرور.
من مظاهر هذه العنصرية:
موقفه المعلن حيال دول العالم الإسلامي، والمسلمين عامة، بمنعهم من دخول أميركا حرصاً منه على ما يزعم بأنه أمن الأميركيين ولو على حساب لا أمن المسلمين هؤلاء الذين يعمل على تدمير بلادهم بما يقدمه من دعم مسلح للتنظيمات الإرهابية التي هي من صنع أميركا، لتقوم نيابة عنها بتدمير بلادهم وقتل شعوبهم، وكأنهم قطعان من السائمة، وليسوا بشراً مثله ومثل مواطنيه الأميركيين، متجاهلاً سائر القوانين والشرائع، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة ذاتها في شأن حقوق الإنسان في الحياة والمساواة بين البشر في كل مكان.
مناوأته لدول أخرى يرى أن مصلحة أميركا تقتضي اتخاذ مواقف العداء حيالها مثل المكسيك وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية. بل تذهب بالرجل عنصريته حدّ العمل على بناء الأسوار على حدود أميركا مع المكسيك وكندا، على سبيل المثال.
السعي لخلق أزمات ومشاكل في هذا البلد أو ذاك، في إفريقية وآسيا، من شأنها أن تفضي إلى قيام حرب أهلية فيها، أو عدوان تشنه عليها عصابات قامت أميركا بصنعها مثل داعش وجبهة النصرة،لا لشيء سوى توفير الظروف الملائمة لبيع السلاح الأميركي وتشغيل مصانعه ولو بقتل تلك الشعوب بالذبح والمتفجرات والقنابل الأميركية «الذكية»!، فموت شعب عن بكرة أبيه لا يعنيه كثيراً ما دام موت هذا الشعب سوف يؤمِّن له تشغيل المصانع وتأمين العمل لعدد أكبر من العمال الأميركيين، لكي يتمكن من إعلان نجاحه في تخفيض نسبة البطالة عنده! وهو ما حدث في منطقتنا العربية، تحديداً وفي المقدمة منها سورية والعراق وليبيا وفلسطين، وإن كانت بدايات ذلك جاءت قبل وصوله إلى البيت الأبيض على أيدي من سبقوه من رؤساء مثل باراك أوباما وجورج بوش الأب ثم الابن وبيل كلينتون، فهم عنصريون كذلك بما لا يحتمل الشك.
من الملاحظ أنه كلما توقعت أجهزة الاستخبارات الأميركية «سي آي إي» أو «أف بي آي» احتمال حدوث اضطرابات أو قلاقل في بلد ما بادرت أميركا إلى تنبيه مواطنيها إلى توخي الحذر ثم إلى عدم السفر إلى ذلك البلد، ثم إلى مغادرته فوراً إذا ما تفاقمت الأمور وأمست تشكل خطراً عليهم، ولو بنسبة احتمالية ضئيلة. وهذا لا يعني في تفسيره غير القول ضمناً: اخرجوا أيها الأميركيون فأرواحكم غالية لأنكم أميركيون، ودعوا أهل ذلك البلد يلقوا حتفهم وسوء مصيرهم فأنتم شيء وهم شيء آخر!
ويبلغ الأمر حدّ تهديده لكوريا الديمقراطية بحرب ذرية تمحوها عن وجه الأرض، إلا إذا…
وها هو أيضاً يتوعد دول أوروبا بحرب تجارية وهي الحليفة لأميركا، بالعقوبات الجمركية ووقف استيراد منتجاتها إذا ما تعارضت مصالحها مع المصلحة الأميركية التي هي أولاً، حسب تصوراته التي قد لا تكون مبنية على أسس سليمة، وكذلك الشأن مع الصين ومع اليابان وكل الدنيا! فـ«أميركا أولاً» يا سادة!
لعل المثال الأوضح على النزعة العنصرية الأميركية تبدو جلية، أكثر من غيرها، في موقف ترامب من المسألة الفلسطينية، فالرجل منحاز للصهاينة أكثر من الصهاينة أنفسهم إلى حد فرض رؤيتهم نفسها على الفلسطينيين، فهو بعد أن «تبرع» لهم بالقدس عاصمة أبدية لكيانهم، ها هو يعلن تهديده للفلسطينيين بقوله حرفياً «لا سلام للفلسطينيين في المستقبل ما لم يعودوا إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل والاتفاق معها»، أي الاستسلام التام والخضوع لشروط نتنياهو وليبرمان، وسائر العصابة المكونة للكيان الصهيوني، ترى هل من تفسير لهذا غير رؤيته المنحرفة التي تصور له تميز عنصر بني إسرائيل على الفلسطينيين؟
سياسة «أميركا أولاً» تشكل خطراً داهماً على مستقبل البشرية ينبغي التنبه له وتحذير العالم بأسره من انتقال عدواه العنصرية إلى دول أخرى على سطح الكرة الأرضية.