إلى أمي وأمهاتكم
| زياد حيدر
يخطئ معظمنا حين يعتقد أنه قطع حبل السرة، بخروجه من رحم والدته.
خلال حياتنا نظرتنا دوماً هي للأمام، واندفاعنا صعوداً، من نقطة خروجنا القسري للعالم الخارجي، إلى أفق قد يضيق أو يتسع، لكننا نحاول ألا ننظر خلفنا، وألا نلتفت للحبل الذي ما زال ملتفاً حول خصرنا، يشدنا للخلف، يحاول أن يمسك بنا ونحن نقفز من عتبة لعتبة، ومن حافة هاوية لأخرى.
تؤثر فينا أمهاتنا بدرجات مختلفة، وفق طباع كل منا وظروف كل أسرة، ونتبادل التأثير معهن، تحت تأثير تلك العوامل وغيرها، فتصبح شخصياتنا في جزء منها متطابقة، متصالحة، رغم اختلافها وتباعد الأجيال.
نصبح في ذلك الجزء ذات الإنسان، فتتجمع فيه كل عوامل الزمن، الأيام المُرّة التي لا نتذكرها ولكن تحفظها الأم بتفاصيلها، الأحداث السعيدة ونقيضها، ذكريات أيامنا في زحفنا نحو التحرر من قيود البيت إلى العالم الخارجي، خصاماتنا، وصراعات جيلينا حول النفوذ والقيم والعادات والحلال والحرام.
كل ذلك يتجمع في تلك المساحة الصغيرة التي تجعلنا وأمهاتنا إنساناً واحداً. جسداً واحداً تقريباً، حين نلحظ أننا نمتلك اكتساباً بعض ذات العادات الصحية، أو غير الصحية.
ندبات ما، شامات، شكل أنف أو إبهام استثنائي الحجم. نرى أمهاتنا تزهر، في منتصف العمر. وفيما نحن نتباهى بعضلاتنا الذكورية، أو أنوثة تُزهر، تكون أمهاتنا بدأن ينتبهن لأن الشيب بلغ جذور الشعر، وأن تنهيدات المساء صارت أطول، وأكثر ثقلا.
تشرق شموسنا، فتشرق وجوه أمهاتنا بسعادتنا. باستقلاليتنا وحريتنا، ونتجاهل أننا نخطو بعيداً مرة أخرى، وأن أقدارنا تتباعد، ومساراتنا تتوازى. يبقى ذلك الجزء الذي نتشارك به، بصحبة أمهاتنا قرب مدافئ الشتاء، أو فيما تسقي زهور الدار، في ألبوم صور جلدي، أما بصحبتنا، فيصبح ذلك الجزء بشكل موعد لقاء مؤجل، أو هاجس دائم محير، أو واجب لا بد من إنجازه.. ولكن على الوقت، أو الظروف، أو الأقدار.. علها تساعد.
أمهاتنا تساعدنا في وضع مسوغات الغياب، وبينما ينمو الزمن ويحفر في أجسادهن، يبدأن بحمل صورنا أينما ذهبن، وشم روائح ثيابنا المرتبة في الخزائن القديمة، حتى يأتي المحظوظة منهن حفيد يعيد وهم شبابها، فتولد معه مجدداً أسباب استمرار الحياة، وتحدي سطوة الأيام.
نراقب نحن أمهاتنا في هذه المرحلة، ونحن نعلم أن المساحة الجامعة فينا عادت لتزيد، فبات في بيت كل منا أم. الزوجة، الأخت، الصديقة، ابنة الخال وابنة العم والجارة وغيرهن، بتنا جميعاً نتشارك القداسة ذاتها، في بيوتنا ومحيطنا.
نستوعب متأخرين، كرجال بشكل خاص، معنى كل هذا. يأتينا كحقيقة صادمة، كنا نرغب في تأخيرها قدر الإمكان، حين تصبح جزءا من يومياتنا.
إذا نحن كنا منذ ذلك اليوم الذي خيل لنا أن حبل السُرة قد قُصّ، نعتقد أننا أولاد القدر لا أولاد أمهاتنا، وآبائنا. وأننا غادرنا المعبد المقدس للأم، وأن مراكبنا أبحرت بعيداً.
لكن الحفيد يأتي حاملاً معه كل أوهامنا. يلقيها في أحضاننا. نحن لم نغادر إذاً إلى أي مكان. بالكاد خطونا خطوة خارج ذلك الحضن الآمن، المشبع برائحة الأرض والأشجار.
لم نغادر يومها حضن أمهاتنا، ولم نبتعد سوى بالقدر الذي يسمح لنا برؤيتها إلهاً كما هي فعلاً. ولكي نفهم أخيراً أن العالم من دون أم، هو عالم قد فقد آلهته الحامية.