قصيدة الحداثة التي لم يكتبها السياب
| د. رحيم هادي الشمخي
تخترق شاعرية السياب قوانين الطبيعة التي تلخصها حكمتها الأزلية والبدء بالولادة الانقضاء بالموت، إذ يتركز غياب السياب الجسدي.. ونحن نعود إليه لدخوله (48) عاماً بحضور قوي آخر يتعمق كلما أوغل ذلك الغياب في الذاكرة.
الشاعرية وحدها وهي ملكة- أو مقدرة منظمة ذات فاعلية أكيدة في جسدية السياب، وبها يُحال دائماً إلى منجزة، وهذه المنجزة هي أن يكون فيها السياب في حداثة الشعر العربي مرجعاً لشاعريته، إن الهدم الذي رافق بناء قصيدة السياب (الحديثة) لا يمكن إبعاده هنا، طمأنة لا مصالحة ولا توفيقاً، إنه الهدم للتقاليد الشعرية- وجه ثان، لازم، أو ضروري، في عمل السياب النصي من ببطانة يشف عنها نسيم ثوبه الشعري.
ستكون قراءتنا لشاعرية السياب إذاً مع شعرية قصيدته، أي نظامها وقوانينها الداخلية، فمن الأخيرة ستأتي إلى قدرته في تنظيم الإنجاز، القدرة الفذة التي أدارت خطابه ليدخل مسبوقاً بشعره إلى مناطق محظورة على الشعر العربي قبله، وهكذا، فالحديث يجري عن السياب في العادة تحت أضواء قوية من ثنائية مزمنة، الريف/ المدينة، الحرية/ الالتزام، وذلك يقصي ثنائيات ظليه ذات أثر كبير في قراءة السياب نقترح منها: صراع القدرة والإنجاز، أو الشاعرية- كقدرة على التنظيم- والشعرية- كمظهر لقوانين ذاتية- والهدم- كخطوة سالبة- والبناء- كاقتراح نصي لحداثة متخيلة ضمن اشتراطات موضوعية- وأخيراً ثنائية الشر والقصيدة، وهي قد تبدو أكثر مقترحاتنا غرابة إذا ما استنجدنا بالخلط المفهومي السائد، ورفضنا إنعاش قاموسنا النقدي بمفاهيم جديدة، فالشاعرية تعود إلى صاحبها، الشاعر السياب محصوراً بين قوس الموت والميلاد، 1926 و1964، وتؤول الشعرية إلى نصه: تتماته الأولى تقليداً وابتداعاً في إطار الحاضنة الشعرية الموروثة، مروراً بتجربته الشكلية به، والمضمونية وترقيق الشكل خارجياً، وابتداع القصيدة الحرة الأولى وصولاً إلى (أنشودة المطر) كلحظة تحديث ناقصة يعوزها الوعي الكامل بما وراء الشكل الجيد وصراع الحداثة الموروث، عبر أسماء (لا نراها مرادفة تماماً بل مقاربة فحسب)، كالموهبة والملكة والقدرة والمهارة الذاتية والاستعداد، فإن الشعرية تجلبها من خنادق نص السياب نفسه، وهذا يشير إلى المفاصل الفنية في قصيدته والمشكلات التي تثيرها في سياق العشرية العربية وتاريخيتها المعروفة، نعني بذلك أن ثمة صراعاً بين قدرة على التموضع في الشعر خطاباً وتحويل الموثق في الحياة والمجتمع والذات إلى (حالة) شعرية، وبين الإنجاز النصي المتأسس إلى ما يهدم من ثوابت، فمن (الاندفاعة) الشعرية المكتنزة للسياب تبدأ نقطة الشعر لتصنيع خط القصيدة، هذه الاندفاعة التي تولدها شاعرية السياب سنعثر لها على أسماء متعددة:
العفوية (ناجي علوش في مقدمة ديوان السياب) أو قوة (الانبعاث في مقدمة مختاراته من شعر السياب)، لكنها جميعاً لا تخرج بالمولد الشعري للسياب من صلة ضرورية بالشعر، لا حياة لكائن كالسياب من دونها، أما الوصول من نقطة الاندفاعة الشاعرية هذه إلى منطقة النص فهو أمر خلافي، فبينما نرى أن الاندفاعة خلقت صراعاً جلياً بين القدرة والإنجاز يرى العدد الكبير من نقاد السياب وقرّاء شعره أنها قادته إلى تلوين الشعر بما هو قدري، أقوى من وعيه، أي وعي السياب شاعراً لكي تسلبه- من بعد- فضائل التحديث النصية.
ومن هنا يمكن إجمال مقترحنا لقراءة متن السياب الشعري بوضع الثنائيات المفترضة..
– القدرة الشاعرية/ الإنجاز النصي
– التجديد/ التحديث
– الشعر/ القصيدة
وهي ثنائيات تتصارع لتولد شكلين من التدرج، أيضاً، قدرة، تجديد، شعر/ إنجاز، تحديث قصيدة.
في التفريق بين الشعر والقصيدة استند السياب إلى الاعتقاد أن الشعر شائع وموجود خارج القصيدة كنظام موجود، بمعنى أنه ذو كيان نحسّه عفوياً في لقطة أو جملة أو لوحة، وعليه أن تخضعه للتنظيم الذاتي داخل النص ليغدو قصيدة، ثمة تفريق شائع بين الشعر والقصيدة، وأبرز محاولات تقنينه جاءت من طرف الشاعر، هنا أريد التنبيه على أننا عند قراءة شاعر كالسياب علينا أن نلحظ قدرته لا في جعل الشعر مرتكزاً للتجربة بل إخضاعه لبناء مقصود يتخلص مما يحف بالقصيدة من تداعيات صورية زخرفية وتراكمات بلاغية أو إنشائية، ومثال ذلك قصيدة (حفار القبور): ضوء الأصيل يغيم، كالحلم الكئيب على القبور
وآه… كما ابتسم اليتامى، أو كما بهتت شموع
في غيب الذكرى يهوم ظلهن على دموع