الغزو الثقافي مؤامرة تستهدفنا كدول وتاريخ … حرية الفكر وإنتاج ثقافة وطنية مقنعة لجيل الشباب والعودة لثقافة التنوير أهم أساليب التصدي
| طرطوس- سناء أسعد
رجاحة العقل ليست مجرد سمة نطلقها على من يتمتع بها بشكل عابر من باب المديح والمجاملة أو بمحض المصادفة، وإنما نتيجة لما لمسناه من عمق وبعد وجاذبية لا تقاوم لكل ما يدور في فلكه من أفكار قيمة، شفافة ومن مواقف سامية ونبيلة.
فالعقل الراجح عقل لا تغريه القشور وليس من السهل إبهاره بكل ما يطرح أمامه ويقدم له لمجرد أنه قدم بالمجان. بل يبحث، يحلل، ويتمعن بعمق لينتقي ما يتبناه بحكمة، وليرتقي بالأحكام التي يطلقها، وليبدع فيما ينتجه ويطبقه من أفكار، عقل لا يقبل الانقياد وراء شهوة الآخرين للسيطرة عليه وسلخه عن جوهر وجوده، ولو اجتمع جهابذة العالم كله لمهاجمته بقصد اختراقه والنيل منه لن يتمكنوا من ذلك.
فالعقل ليس مستودعاً لتخزين وتكديس ما يساق إليه من بضائع متوافرة ومتاحة ولا بجيب نملؤه بالمال فقط لنطمئن أنه ليس فارغاً.
ولكن ما أكثرهم أولئك الذين اعتبروا عقولهم مجرد جيوب ومستودعات متخومة بكل ما هو فارغ وسطحي وما هو مدمر ومخرب وكارثي، مستسلمين لتلك القوى اللاهثة لسلبنا هويتنا وتجريدنا من كل ما يحترم ويقدر ذاتنا. فكانت عقولهم جاهزة ومستعدة لغزوها فكرياً وثقافياً تتغذى بما يتكرم عليها غازيها فتأكله بنهم. لا فرق إن دس فيه السم أو لا فالمهم والأهم لديها أنه بطعمة ونكهة الحضارة الغربية.
وهنا تكمن الخطورة الكبرى ويكمن التحدي الأكبر في مقاومة هذا الغزو المنفلت للاستيطان في قلب كل ما يخدم مساعيه ويحقق أهدافه ولا سيما في عقول شبابنا مستخدمين كل ما هو متاح من وسائل الاتصال والتواصل وجميع أدوات التكنولوجيا الحديثة على اختلاف أشكالها وأنواعها.
فما مخاطر الغزو الفكري والثقافي الذي نتعرض له على مدار الساعة؟ وما الآلية الأنجع لمقاومة هذا الغزو وفضح أساليبه وتعرية أهدافه؟ من الجهات المسؤولة؟ وكيف نحصن شبابنا ونحميهم لأنهم الفئة الأكثر استهدافا والأكثر عرضة للاختراق في هذا الغزو؟
ثقافة التنوير أهم أساليب التصدي
الأديب مفيد عيسى أحمد يقول: الغزو الثقافي ليس هدفا بحد ذاته بل هو تأسيس لما هو أبعد من ذلك وله أوجه عدة وبأدوات مختلفة، الأخطر فيها هو الصورة، تاريخيا يعد الاستشراق في أغلبه النشاط الذي تأسس عليه الغزو الثقافي، لأنه لا يمكن خلخلة مفاهيم الآخر وتغيير ذهنيته وطريقة تفكيره ونظرته إلى تاريخه وموروثه الثقافي الشامل دون معرفته. وهو ما سعى إليه الغرب، طبعا لم يعد هناك دور الاستشراق التقليدي الآن فقد صار له طابع آخر، وهذا واضح في استخدام الموروث الغيبي الديني الملتبس في تشكيل المجموعات الدينية المتطرفة من الغرب الذي أقل ما يوصم به التوحش.
ويرى أحمد أن أخطر ما في الغزو الثقافي هو تخليق منظومة مفاهيم جديدة ومختلفة تشكل المحتوى الثقافي والمعرفي لشعب بأكمله وعلى مدى جيلين أو أكثر سيكون هناك إنسان جديد مختلف تماماً. منقطع عن تاريخه وثقافته الحقيقية ومتساوق مع ثقافة اللاتحديد تارة والتعصب تارة أخرى، بمفهوم مشوه عن الوطنية وعن المواطنة وعن الآخر، وبنزوع للانغلاق الثقافي والانفتاح الاستهلاكي، وهذا ما نراه جلياً في دول الخليج مثلا وما كان الغرب يسعى إليه في السنوات الأخيرة إلى الآن، ونحن ساهمنا في ذلك حيث لم نحافظ على ثقافة التنوير واستعضنا عنها بثقافة استاتيكية سلفية جامدة.
أما عن التصدي لهذه الظاهرة فيقول أحمد: إنه أمر ملح خاصة في ظل الحرب القذرة التي شنها أطراف غاية في القذارة على بلدنا، ويعتقد أن العودة إلى ثقافة التنوير بكل فعاليتها هو أهم أساليب التصدي، وهذا يقوم على فسح المجال للعقول المبدعة الوطنية الحقيقية لترفد عقولنا بمنتج ثقافي إبداعي يخرج ثقافتنا مما علق بها من سموم أتت غالباً في دسم تصعب مقاومته، ربما لأنه لذيذ وممتع.
متابعاً: هذا أمر ليس سهلاً في ظل وسائل الاتصال السائدة وقدرتها الهائلة على الوصول إلى الأجيال كافة والفئات ودرجات الوعي وخاصة فئة الشباب وهو الأكثر تحمساً واستخداما لهذه الوسائل.
لا بد من خطاب ثقافي مختلف يراعي ويناسب ذهنية الشباب ويكون قادراً على شدهم وتلبية حاجتهم المعرفية وقد يكون ذلك في إطار ترفيهي تارة وجاد تارة أخرى، هذا الخطاب يعمد على تعزيز الثقافة الوطنية التنويرية لكن بلهجة بعيدة عن المدرسية والتلقينية السائدة في ثقافتنا وإعلامنا.
مؤامرة تستهدفنا كدول وتاريخ.
الأديب والشاعر علم عبد اللطيف يقول: يبدو مصطلح (الغزو الثقافي)، وكأنه يحيل الثقافي إلى السياسي دائماً، من حيث اعتبار الثقافة الوافدة تتصل بالشأن السياسي وتدور معه وجوداً أو عدماً، ويستمر الحديث عن غزوٍ قائم وحالّ، والثقافة التي تردُ إلينا من الآخر، هي بشكل أو بآخر تنحو باتجاه المؤامرة التي تستهدفنا كدول وتاريخ، ونبدو حيالها كما لو كنا جاهزين وحاضرين دوماً للغزو بسبب ضعفنا وقلة تأثيرنا، وهي إشكالية لا يمكن اختصارها في تعريف أو مصطلح من كلمتين فقط.
بدايةً، لا يمكننا إنكار المشاريع السياسية لدى العالم الأقوى، الاستعماري أو الرأسمالي اليوم، وقد بدأ مشروع الغرب في الاتصال بالشرق منذ قرون، عبّر عنه الاستشراق الذي بدا كما لو أنه فعل تحريك الساكن المتأسّن أو المتصلب في بلدان الشرق التي تنام على أمجاد الماضي وتقديس عقائده الدينية والسياسية والاجتماعية، وفي الوقت ذاته كان تعبيراً عن مسألة تاريخية، هي تسييد وتعميم ثقافة الأقوى ومنهجه وتوجهاته، وفي الوقت ذاته كان بداية البحث عن المصالح الاقتصادية التي لم تتوقف خلال التاريخ لدى الأمم، ولم يغبْ عن ذاكرتنا بعد نظام القومونات الغربية في الشرق الأوسط تحديداً، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والعلاقات الاقتصادية المفروضة من (المدينة الدولة)، البندقية وفلورنسا وجنوة وغيرها.
إلا أن المشروع السياسي لدى الغرب، ومنذ انطلاق عصر الأنوار والثورة الثقافية والفكرية والقانونية والسياسية بعد معاهدة (وستفاليا)، التي دشنت وصول البرجوازية إلى مواقع القرار السياسي والاقتصادي في الغرب، لم يكن من شأنه -أي المشروع السياسي- أن يختصر جملة المشروعات الأخرى التي لم تكن على هامش السياسي، بل موازية ومعادلة للسياسي، فبدأ تصدير المطابع، والآلة، مع تصدير فهم جديد للحياة يتناسب ويتلاءم مع التطور المتسارع في العالم، تماماً كما تم تصدير نموذج (الدولة الأمة) الحديثة إلى العالم، ومنه منطقتنا، كنموذج يجب أن يحل محل النموذج الإمبراطوري (الأمة الدولة) القديمة.
من هنا نفهم تاريخية التدخل العالمي وظروفه وحيثياته، ونفهم أيضاً وفق منطق التاريخ، أن الأقوى هو الذي يفرض منطقه وسياسته وثقافته، وهو حدث بالنسبة للعرب إبان قوة إمبراطوريتهم وسطوتها، فصدروا الثقافة والفكر العربيين، وصدروا الحرف العربي واللغة العربية، ولا تزال بلدان الشرق الكبرى تعتمد الحرف العربي في كتابتها، منها إيران وباكستان وأفغانستان، وإلى عهد قريب تركيا.
متابعاً: الآن يتم تداول (مصطلح العولمة)، ولا شك أن الغرب القوي لا يمكن أن يخفي نزعته في فرض ثقافته على العالم كله، من الفكر والمعرفة، إلى شكل اللباس وطرائق التعامل الشخصي في الحياة، وفي المأكل والمشرب والنوم والاستيقاظ، لكنه أيضاً لا يمكنه أن يحجب التطور الثقافي والفكري والعلمي الذي تحقق في العالم، وعنده على وجه الخصوص، وستقدم العولمة مع الصادرات السياسية، صادرات الثقافة والفكر، فنتعرف إلى المدارس الألسنية الحديثة، وعلى المذاهب الفكرية المختلفة في الغرب، وعلى مناهج النقد، وأشكال الإبداع في الأدب والفكر والفن. وفي تعميم التعليم الأكاديمي والبحوث التجريبية، وفي الترجمة والتواصل الفكري والإنساني مع شعوب الأرض، وأيضاً في تقديم فهم جديد لفكرة المواطنة والإنسان الحر، والأهم هو التواصل مع المنظمات الإنسانية والقانونية والصحية على مستوى العالم، والتي نشأ معظمها رداً على مآسي الحروب التي حدثت في الغرب نفسه، ومحاولةً للتقليل من آثارها وامتداداتها.
ويرى عبد اللطيف أن الغزو الثقافي هو كالغزو المباشر يمكن أن يتم في أي مرحلة ويعبر عنه بالمشروع السياسي¡ مشروع القوى المهيمنة وربما المتوحشة التي تعتمد القوة والعنف لإبقاء سيطرتها وتعزيز مصالحها على حسابنا وحساب العالم كله إذا أمكن، وهو ما تتم مواجهته الآن بذات الأدوات التي وصلتنا من الغرب، الإعلام ووسائل التواصل والاتصال.
إنتاج ثقافة وطنية مقنعة لجيل الشباب
الأديب والكاتب سليمان يوسف يقول: الثقافة العربية تعاني اليوم مرضها العضال، وهي في أزمة كبرى نتيجة عجزها في أن تكوّن ثقافة حقيقية تحصنها من الانكسار والضعف والتهلهل في مواجهة العولمة الثقافية التي تجتاح العالم برمته.
إن الإخفاق الثقافي في الماضي والآن لدينا، هو نتيجة إخفاق قيام نهضة عربية على المستوى الاجتماعي والفلسفي، ومن ثم لم نستطع أن نجيب عن الأسئلة الكبرى الوجودية للمواطن العربي، كي تحميه من الضياع الثقافي والفكري والحضاري. إن مخاطر الغزو الثقافي، هي من الكبر، بحيث تهدد وجودنا كعرب في أن نكون في صلب التاريخ، أو لا نكون. إن هذا يعتمد على فاعليتنا في إنتاج ثقافة وطنية وتحديد مضمونها من خلال الدور الذي يمكن أن تقوم به على صعيد تطور المجتمع وعلى كل الصعد الممكنة والمتاحة. إن الثقافة هي التي تطبع الشعوب بسماتها وتكون وعاء حضارتها وهي التي تصبغ وجدانها على مر التاريخ. يمكن القول: إنه لا يوجد أهم من الثقافة في الدفاع عن الوطن ومنعه من التفتت الداخلي والتآكل الخارجي على شكل نزعات شعبوية أو عرقية أو عبر السيطرة الخارجية من دول قوية تريد الهيمنة بالقوة. وليست مسألة الغزو الثقافي والفكري بجديدة في حلبة التنافس العالمي، بل هي قديمة قدم الحضارات العالمية، وإن بطرق مختلفة وفق كل مرحلة تاريخية مرت بها.
ويرى يوسف أن مواجهة وتحدي الغزو الثقافي، لا بد أن يكون من خلال رسم استراتيجيات ثقافية وطنية، تستطيع المواجهة واستيعاب هذا المد الثقافي المهيمن بطريقة هضمه، ومن ثم إعادة إنتاجه إبداعيا بهوية وطنية، تنشأ من تربة محلية تستند إلى إرادة حرة وواعية تحمل مشروعها المستقل عن كل تبعية ثقافية عولمية، وبحيث تخلق منظوماتها الثقافية والأخلاقية والفلسفية، بغية النهوض نحو سلّم الحضارة العالمية.
ويتابع قائلاً: إن المسؤولية تقع على عاتق الجميع وفي مقدمتهم النخب الثقافية والتيارات والأحزاب الوطنية وتجمعات المدنية والطبقات الاجتماعية صاحبة المصلحة في ذلك. إن جيل الشباب، هو الجيل الأكثر تأثراً بمسألة الغزو الثقافي والفكري، لذا كان لزاما علينا أن نحميه ونحصنه بثقافة وطنية، تملك إستراتيجية المواجهة والتحدي، من خلال خلق البدائل الحقيقية بإنتاج ثقافة وطنية ترسم أفاق مستقبلها، وتكون مقنعة لجيل الشباب، ومساهمة في حل مشاكله وصعوباته مادياً واجتماعياً وثقافياً ونفسياً، كي نستطيع إدراك ما نعاني من نقص على مختلف الصعد، بحيث ننتج هويتنا كحالة إبداعية تستجيب للحاضر وتستشرف آفاق المستقبل، بحيث تستجيب لحاجات التقدم التاريخي وتكون في حركة صاعدة في مرآة الذات المبدعة.
عدم توريط المشروع الثقافي في أي توجّه
الشاعر المترجم أحمد م أحمد يقول: فلنعترف بادئ ذي بدء، أن الغرب لا يزال يحتل موقع السيادة في المشهد الثقافي العالمي، بسبب تفوقه الاقتصادي والتكنولوجي، وما أفرزه ذلك من إصلاحات على مستوى الفرد والمؤسسات في تلك البلدان، وأن سعيه للتفوق الثقافي هو جزء من تكريسه لسيادته على العالم. مع ذلك لا أعترف بأن الشعر والرواية اللذين ينتجهما الغرب أفضل من مثيليهما في العالم الثالث، إلا أن القدرة التسويقية لهذا النتاج الثقافي أكبر بكثير من قدرة بلدان العالم الثالث على التسويق.
مضيفًا: وإذا افترضنا أن هناك (غزواً ثقافياً)، فهذا يعني أن هناك ثقافة «تغزو» وثقافة «تُغزى»، ثقافة قوية وثقافة ضعيفة. وهذا يقودنا إلى البحث في أحوال الثقافة الـمُعتدى عليها، والتساؤل لماذا هي في موقع المعتدى عليه، موقع الهجوم، موقع المحتمي من (الآخر)! هل لأنها ضعيفة وفاقدة الأدوات للنمو والمجابهة وإثبات ذاتها؟ هل تفتقر إلى أرضية جماهيرية وقاعدة مُتلقّين ومتفاعلين، ولماذا، ومن ثم ما السبيل إلى إصلاح الفجوات في بنيتها التي تعرضت للعطب والتشوه خلال عصور الانحطاط والاستعمار وحكم المنظومات الفكرية والسياسية المتخلفة؟
مقدمة طويلة لسؤالٍ هو بمنزلة جواب: على الشعوب التي تخاف على ثقافتها من (الغزو) أن تسرع في مسيرة تحديثها لذاتها وتفاعلها الخلاق مع (الآخر) وليس الانغلاق على نفسها. عليها أن تقبل التطعيم من الثقافات الأخرى كما طعّمتْ بدورها تلك الثقافات فيما مضى. وعلى الهيئات الحكومية عدم توريط المشروع الثقافي في أي توجّه إيديولوجي أو حبسه في أقفاص المحرمات التقليدية، بل يجب أن تكون داعمة في توجهه نحو التحديث وإبراز هويته الإنسانية التي تنمو وتتغاير مع العصر.
ثمة أيضاً العدالة الاجتماعية، الأريحية وحرية الفكر، النزاهة في اختيار مديري المؤسسات الثقافية، والقابلية لتنوع الأفكار وتحديث اللغة.
بذلك ربما نحمي الأجيال القادمة من العدمية، أو الفصامية الثقافية، في أحسن الأحوال.
رأي وخاتمة
أهمية البحث في مخاطر الغزو الثقافي ومقاومته لا تكمن في آثاره الواضحة والملحوظة بقدر ما تكمن في تدارك ومنع ما يمكن أن يتحقق لاحقا نتيجة هذا الواقع الذي فرض علينا، بنظرة بعيدة المدى وأكثر شمولية بخصوصيتها ودقتها، نظرة لا تقبل التجزئة ولا التقسيم سواء في الرؤيا والتخطيط أم في العمل والتطبيق وضرورة الابتعاد عن التخبط والتشتت والفوضى المحكومة بالإهمال والتراخي وانعدام التعاون الذي من شأنه أن يمنع تحقيق أي إنجاز يذكر.
فالاعتراف بأي مشكلة وطرحها للمناقشة والإشارة إلى منافذ الخروج منها لا يمكن اعتباره حلاً فكيف إذا كان ما نواجهه هجمة ملغومة ومثقلة بكل هذه الخطورة.
وملامح النتائج الكارثية لهذا الغزو تظهر بالدرجة الأولى في عدم إدراك خطورته والتقاعس في السعي لإحباط جميع محاولاته الخبيثة والهادفة لطمس هويتنا وتشويه ثقافتنا وإنكار مبادئنا وإباحة كل ما من شأنه أن يجعلنا مأزومين أخلاقياً وفكرياً وثقافياً، لخلط المعايير ومقاصد المفاهيم رأسا على عقب.
تبدو جميع قيمنا ومبادئنا وكأنها مجرد موضة بالية وقديمة ومن يتمسك أو يناد بها فهو متخلف رجعي وذو عقلية متحجرة ملأى بالعقد.
والفهم الخاطئ لمصطلحات التغيير والانفتاح والتحرر والتطور وتطبيقها عمليا في أغلب مفاصل وتفاصيل حياتنا هو أكثر نتائج هذا الغزو خطورة وهو ما يسعى العدو جاهداً لترسيخه في أذهان وعقول ونفوس شبابنا.
لذلك لابد من مواجهة جدية وإرادة حقيقية للتنفيذ قبل التخطيط وانتقاء من هم أهل لهذه المهمة بجدارة والأهم من ذلك كله إبعاد جميع من يساهم ويشارك في نجاح هذا الغزو وتحقيق أهدافه سواء بقصد أم بغير قصد من المتململين والمتملقين وأعداء الفكر الذين يتقنون محاربة المواهب وإقصاء المبدعين وخنق الأصوات الحرة، وأولئك المتحمسين لاستلام مناصب ثقافية وغيرها ليكونوا مجرد أدوات لتصريف كل ما هو مبتذل ورخيص وتمريره بسهولة وعذوبة في جميع القنوات المختصة بشؤون التربية والتعليم والإعلام بغية الاستسلام لنتائج هذا الغزو وتقبلها كحالة طبيعية وصحيحة واعتبارها إحدى علامات التقدم والتطور الذي يشهده هذا العصر المحكوم بسياسة السرعة واللاتأني واللا حاجة فيه إلى أعمال أعماق العقول.
والمثقف ذو الأنا الَمتضخمة الذي يرفض المشاركة في هذه المواجهة بفكره وثقافته لاعتبارات شخصية أو لحسابات أخرى هو أيضاً مساهم في تحقيق أهداف هذا الغزو، لأن نبل الفكر وسموه يجب ألا يتجزأ عن نبل المواقف وسموها، فأين نحن من هذه المعركة القاسية؟ وماذا فعلنا لمواجهتها؟
السيد الرئيس بشار الأسد قال: «إنه لا يوجد ضابط على هذا النوع من الإعلام ولا يمكن أن يوجد مستقبلاً. هناك ضابط وحيد هو رجاحة العقل ولا يوجد شيء أهم من الحوار من أجل تحصين العقل ومن أجل تحصين المجتمعات، حوار شعبي ليس بين النخب فقط ليشمل الشرائح الأوسع وخاصة الشباب وبشكل أهم في الجامعات».
وآلية تطبيق هذا الحوار ليس مسؤولية جهة معينة ولا يجب حصره بمدة أو بتوقيت محدد والمفردات المستخدمة يجب ألا تقتصر على زرع الوعي الثقافي والفكري وحسب، وإنما الأخلاقي والاجتماعي والوطني وأهمية تقبل الآخر والانفتاح على مختلف الثقافات الأخرى للاستفادة من كل ما هو مقبول وصحيح وملائم لنا وليس لاستبدالها بثقافتنا وقيمنا وليس لإلغاء انتَمائنا والاستغناء عن هويتنا ومن المؤسف القول إن هناك نسبة لا يستهان بها من مدعي الفكر والثقافة يهللون للغرب وحضارته متجاهلين ما أنتجته وصدرته بلادنا للعالم من حضارة وثقافة وفكر وفن وأدب.
احتضان شباب هذا العصر ليس بالأمر السهل ولكنه ليس بالمستحيل، ونحن لسنا عاجزين عن تحقيقه وقد يتطلب ذلك الكثير من الوقت والجهد ولكن الأمر يستحق هذا العناء، بل تسخير كل الطاقات والسبل والأدوات المتاحة وغير المتاحة له، البسيطة والصعبة منها فإذا كان الشباب هم الأكثر تأثرا فهذا لا يعني أن المشكلة تخصهم وحدهم بل هي مشكلة أمة برمتها.
فلنحتضنهم ونحصنهم عبر المدارس والجامعات وعن طريق الإعلام والأسرة أيضاً بتنشئة صحيحة وتربية سليمة وثقافة وطنية مشبعة بكل ما هو أصيل، ببرامج هادفة تتماشى مع متطلباتهم تعرض بأساليب مبتكرة، مقنعة، بسيطة، وخلق جسور تواصل متينة وبشكل دائم بين النخب الحقيقية من المفكرين والمثقفين وبين مختلف الفئات العمرية وجذبهم بطرق تحاكي ميولهم لنتمكن من جذبهم إلى كل ما يصلح نفوسهم وعقولهم ويقوم توجهاتهم نحو المسار الصحيح.
مقاومة هذا الغزو مهمة إنسانية ووطنية وأخلاقية أكثر من كونها ثقافية وفكرية ومن فاز بهذه المهمة انتصر لوطن بأكمله.