من باريس إلى واشنطن: عندما يُسقِط الصمود السوري كذبة «الغرب الأخلاقي»
| فرنسا- فراس عزيز ديب
«هم العابرون ونحن الباقون»، عبارةٌ كتبها أحد شجعان هذا العصر على أحد الجدران ممهورةً بالخاتَم الأقدس (وطن شرف إخلاص)، فرحاً بخروجِ الإرهابيين من معظمِ بلدات الغوطة، لتجتاحَ هذه الصورة مواقع التوصل الاجتماعي.
الجندي السوري وإن كان يسير بين حطامِ المباني، إلا أن عُمقَ هذه العبارة حوّلت ما حولهُ من دمارٍ إلى ربيعٍ طالَ انتظاره، باقون نعم، لأن السنديان اعتاد أن يضربَ جذورهُ في عمقِ الأرض وينشرَ فيئهُ على التراب الطاهر من دون اعتبارٍ للعواصف والنوائب. هم الراحلون أجل، لأنهم منذ البدء كانوا كما أجدادِهم طارئين، كما الأعشاب الضارة قد يتجاورون جذوعَ السنديان لكن هيهاتَ هيهاتَ.
باقون نعم، لأننا مجبولون بهذا التراب، راحلون نعم لأنهم زُرعوا ليكونوا تلك (العلقات) العشبية التي تُغذي طموحات الواهمين في هذا التراب الطاهر، لكن ربيع بلدِ الياسمين الذي أزهر في دمشق لم يُسقط تلك الطفيليات وزارعيها فحسب، لكنه أسقط ما هو أهم وبمعنى آخر:
إن الغرب المجرم الذي اعتاد عبر رأس الأفعى الأميركية على مهاجمةِ الدول ونهبِ خيراتِها وتدميرها والاستيلاء عليها، كان لا ينسى أبداً أن يصنعَ لنا أفلاماً تمجِّد هذا العمل «المشين» لكن بإسلوبٍ يسعى لغسل الأدمغة المتلقية، فيتحول من مجرمٍ إلى رمز ومن قاتلٍ إلى بلسمٍ يشفي الجراح، فكم من الأفلام مثلاً تحدثت عن شجاعة الجنود الأميركيين في حربِهم القذرة على فيتنام، وكم من الأفلام تحدثت عن سعي الجنود الأميركيين لحماية الأطفال عند احتلالهم للعراق، الأساليب ذاتها اتبعوها منذ انطلاقةِ أكذوبة الربيع العربي، ولولا سقوطهِ على أعتاب دمشق لكنا الآن نعيش فيلماً هوليودياً عن الدمار والخراب اللذين يجلبان الأمن والأمان، أو دماء الأبرياء التي ترسم لوحاتٍ لطموحات الجزارين، وإذا كنا قد اعتدنا القول إن أكبر ضحيةٍ في حمام الدم المفتوح في هذا الشرق البائس كانت «الحقيقة»، فإن أكبر سقوطٍ هو لذاك الوهم المسمى «الغرب الأخلاقي»، ولعل خير مثالين على ذلك، فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
من فرنسا حيث النموذج الأول نبدأ، تحديداً فيما باتَ يُعرف بمحاكمةِ الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بتهمةِ تلقيه أموالاً بصورةٍ غيرِ شرعية من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي لدعم حملته الانتخابية في العام 2006، تلك القضية باتت تستحوذ على الكثير من الاهتمام لأنها بالنهاية هي الأولى بتاريخ الجمهورية الخامسة التي ترتبط بخداعٍ انتخابي مارسهُ رئيس الجمهورية عبر الفساد المالي المرتبط بحملتهِ الانتخابية.
لكن في مقلبٍ آخر فإن هناك من يتعاطى مع القضية من مبدأ الإعجاب بالديمقراطية الغربية التي تبدو قادرة أن تُحاكمَ مسؤوليها السابقين بما فيهم الرؤساء، لكن الواقع لا يقول ذلك، حتى إن عودة الحديث عن هذه القضية مع بروزِ شاهدٍ جديد لا يمكننا عزلهُ عن تصفيةِ الحسابات الدائرة بين مشيخات النفط نفسها، تحديداً أن ساركوزي كان ولا يزال ذراع الاستثمارات القطرية في فرنسا، وإذا كان هناك فعلياً ديمقراطية تُحاكم الرؤساء فأيهما أولى محاكمة ساركوزي على الأموال التي تلقاها من القذافي، أم محاكمته على ردةِ فعلهِ حيالَ كشف أمرهِ من قبلِ سيف الإسلام القذافي ليعتبر المشكلة بعد ذلك شخصية ويقرر الانتقام عبر رفع راية إسقاط «النظام الليبي» عبر مجلس الأمن، وقتلَ معمر القذافي بهذه الطريقة الهمجية للتخلص من هذه الاتهامات إلى الأبد؟
لو كان هناك حقاً عدالة أخلاقية يمتلكها هذا الغرب لما أعطى بقوانينهِ ودساتيرهِ حصانةً للرئيس تمنع محاكمتهِ كنتيجةٍ لأي قرارٍ يتخذه خلال ولايتهِ الانتخابية، حتى لو كان هذا القرار تدميراً لدولةٍ مسالمةٍ وتهجير شعبها وتحويلهِ من بلدٍ يستجلبُ العمالةَ الأجنبية لبلدٍ فيهِ أسواق نخاسةٍ لبيع البشر كعبيد، لا يشبهها إلا أسواق النخاسة الغربية التي تتاجر بالأخلاقيات وتبيع وهم حقوق الإنسان، فالدستور الفرنسي مثلاً يمنع محاكمة الرئيس حسب المادة 67 إلا على الجرائم التي تم ارتكابها قبل أو بعد الفترة الرئاسية، أي إنه معفى من جريمة الحرب المرتكبة في ليبيا لكن يجب أن يحاسب على أموال تلقاها بصورةٍ غير رسمية، ومحاكمة ساركوزي هنا ناتجة عن واقعة ارتكبت قبل توليهِ الرئاسة وهي تذكرنا تماماً بواقعة محاكمة الرئيس الأسبق جاك شيراك لاختلاسات مالية قام بها خلال ترؤسهُ بلدية باريس منتصف الثمانينيات، وفي النهاية تمت لفلفة القضية وادعاء أن شيراك لم يعد قادراً على حضورِ جلسات الاستجواب، تماماً كما قد يتم إغلاق قضية ساركوزي بعد أن كسبت ضجة إعلامية «ديمقراطية»، ليثبت لنا هذا الغرب أن دماءَ الأبرياء وخرابَ الدول شيء، ونزاهة نظامهِ الانتخابي شيء آخر! هكذا تساوي الشعوب المستَهدفَة في ميزانِ الأخلاق عند النظام الرسمي الغربي.
أما النموذج الثاني فهو الأعرق والمتمثل بديمقراطية الإجرام الأميركية.
في مقال الأسبوع الماضي قلنا إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن خلال الإقالات والتعيينات التي يقوم بها في إدارته بدا وكأنه يشكِّل حكومةَ حرب، لم يخذلنا ترامب بل دعم أيضاً هذا التحليل عندما قرر مؤخراً تعيين السَّادي «جون بولتون» مستشاراً للأمن القومي، تعيين سيجعل الإدارة الأميركية الحالية هي الأكثر تطرفاً في تاريخ النظام السياسي الأميركي، بل نكاد نجزم أن هذه الإدارة ينقصها تعيين السيئ الذكر جيفري فيلتمان أميناً عاماً لحلف «ناتو» ليكتمل النصاب الإجرامي، وبمعنى آخر لا يبدو تعيين بولتون المعروف بعنصريته وتشددِه تجاه الملفين الإيراني والكوري الديمقراطي والحاصل على «وسام الأرز اللبناني»، بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ، بل هو استكمالٌ لعمليةِ السقوط الأخلاقي الأميركي. لكن ما يميز الولايات المتحدة أن سقوطها لم يكن مرتبطاً فقط بالحروب المباشرة التي شنتها وكان آخرها في العراق أو غير المباشرة مثلما يجري في سورية، لكنها أساساً دولة قامت على فكرة «السياسة بلا أخلاق»، فأباحت بشكلٍ علني كل التجاوزات الإنسانية والأخلاقية إذا كانت بهدفِ تحقيق مصالحها، فما الجديد؟
قبل أيام رفضَ الكونغرس الأميركي قراراً يمنع التعاون مع «آل سعود» في اليمن حيث استند المطالبون بوقف بيع السلاح لـ«آل سعود» إلى الجرائم التي تُرتكب في هذا البلد، اللافت أنه في الوقت الذي كان فيه المشرعون الأميركيون يتجادلون حول القرار، كان ولي عهد «آل سعود» محمد بن سلمان يجلس كالأبله في البيت الأبيض وهو يصغي إلى ترامب الذي كان يتحدث بمفهوم أهمية مملكة القتل كأفضل سوق لتصريف السلاح الأميركي وأن المليارات التي تُدفع هي بالنهاية المحرك الأساسي لمعامل السلاح وفرص العمل، ولعل هذه الصورة الذليلة تذكرنا بالمعلقات التي كتبها البعض في الصحافة «المقاومة» وهو يمدح ابن سلمان ويبشرنا برؤيته الإصلاحية، كيف لا وهذه الرؤية حولت حروب «الأمير الشاب» كما كانوا يصفونه في معلقاتهم إلى مصدرِ إثراءٍ للخزينة الترامبية وملحقاتها؛ لكن بشكلٍ عام ليس علينا الغوص في مجاهلِ «آل سعود» والنظر لما يفعله الأميركي من مبدأ «الابتزاز المشروع»، فكلا الطرفين يمتلك من الأخلاقيات ما يجعله في المصاف ذاتها، ومشكلة البعض للأسف أنه لا يريد أن يطرح على نفسهِ أسئلة مهمة منها مثلاً ما الفرق بين الداعشي الذي يتصور أمام ضحاياه وبين الصورة التي التقطها السفير الأميركي السابق في ليبيا بجانب جثة القذافي، ما الفرق بين نظام الجواري الذي يعتمدهُ حكام «آل سعود» في القصور وبين نساء يوقِّعن على تعهدٍ بعدم كشف أسرار علاقتهم الجنسية مع ترامب؟ أما السؤال الأهم:
ماذا لو أن سورية كانت قد سقطت منذ الأشهر الأولى كما كانوا يريدون؟ كان البعض لا يزال يغني للناتو ويرى ساركوزي مخلصاً، كانوا سيقرؤون علينا صحف «ترامب وأوباما» ونحن نصدقها، كان علينا أن نسبح بحمد القاتل ونبقى أسرى لأضاليلهم الأخلاقية وهم ينتقلون بنا بدمائنا وبأموالنا نحو ديمقراطية أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني، لولا هذا الربيع السوري لكنا اليوم نرتل في معابد حقوق الإنسان الأوروبي أناشيد تتحدث عن تورطك في تعذيب الأبرياء وسحلهم، في دعم الإرهاب وتغذيته ومن ثم تتحول لشريك في محاربة هذا الإرهاب. عندما نتحدث عن الربيع السوري فإننا لا نتحدث عن قضيةِ انتصارٍ على قوى مهاجِمة، لكننا نتحدث عن سقوط منظومة وتعريتها لدرجةٍ بات فيها الغرب غير قادرٍ على تبرير جرائمه بالمسوغات الأخلاقية كما اعتاد، لتصبح هذه الأكاذيب مكشوفة أكثر من كذبة ابن سلمان بتطوير القنبلة النووية السعودية خلال أيام.
هذا السقوط الأخلاقي يجب ألا نجعله مجرد محطة عابرة علينا أن نجيد استغلال الأمر والانتقال لتعرية الأنظمة أمام شعوبها بماكينة إعلامية بعيدة عن النمطية المملة، فهل نحن جاهزون لإكمال إسقاطهم؟ القضية تحتاج فقط لإرادة فعالة، ألم يقل لكم ذاك المقاتل.. باقون وهم الراحلون؟