ثقافة وفن

المسرح ذاك الغائب!

| إسماعيل مروة

تشخيص لحياة ممتدة، أبدعت فيه فطرة الإنسان، فكان أوديب، وكانت إلكترا، وكانت كل الشخصيات من حكمة وجنون وعشق، ولأن الحياة جميلة غاية الجمال، فقد استعان اليونان القدماء بالآلهة لتكون ضمن الشخصيات التي تؤدي أدواراً! لقداسة المسرح وعظمته ومكانته وجد اليونان الإغريق أن الآلهة من جمال وحب وخصب وحرب يمكن أن تأخذ شيئاً من رحمة المسرح بالإنسان المولع بالجمال، فجاء كيوبيد بسهمه، فعشق وأنجب وعاش، وفي كل يوم يأتي كيوبيد بسهمه، يوجهه إلى أمومة امرأة وتنضح مسامها بحب لا مثيل له ليقول ما يريد، ويرسم ما يريد وينجب أنصاف آلهة يكملون بعده الحب الأبدي للأرض والحياة.. الإغريق قدّسوا امرأة وجسداً وروحاً فجاؤوا بالآلهة لتشاركهم حياة هي المسرح، فأسسوا لشعر وفن وجمال، ولم ينغمسوا في حروب لا تنتهي، ولم يملكوا جبروت الرومان في القضاء على من أرادوا من طبقة العبيد، أو من المحكومين على خشبة المسرح.
يتحرك أمامك أوديب، ويبكي ويتألم، ويحب، ويتوه ويفعل كل ما يحلو له، ويخضع لكل ما يعرض له، والآلهة توجه وتصوب وتشارك، لتجعل الحياة ممتعة، أو لتحولها إلى عبرة تبقى ما بقي الإنسان والحرف، ويدلف أوديب وعقدته لتصبح نموذجاً عند الرومان، ومن ثم عند الأوروبيين في العصور اللاحقة، وكذلك عند العرب، لأنها معاناة الإنسان، ولكل زمان أوديبه، ولكل أدب أوديبه، ولكل توجه سياسي، ولكل مذهب فلسفي أو سياسي، بل لكل شخص أوديبه الذي يكتبه ويملي عليه عقدته أو عقده، فيتبرأ عندما يريد ويلتصق به عندما يشاء، يحمّله همومه وآلامه، ويبثه أحلامه ومآسيه بدمعة أو ابتسامة، ويبقى أوديبه معلقاً بأصابع مبدعه الأول سوفوكل.
لم تستطع السينما أن تستوعب تحركات يوربيدس وسوفوكل، وعجزت عن تصوير دواخل يعطيها الجسد الذي يتلوى أمامك، والوجه الذي يبكي بحق بين يديك، وبقي المسرح دعامة الإنسان، لا دعامة فن ولا فكر، وحده المسرح هو الإنسان، وحده القادر على الدخول في الثنايا الخفية وفي الأثناء الحرجة ليظهر لك عريك وعري روحك أمام ذاتك الملتهبة بألم اللحظة المدهشة- وحده المسرح يريد حياتك في أصابع ترصّ وهي تتألم أو تنتشي، وتجعلك روحاً متوقدة تترقب أن ينهار القبح لتستشف ما وراءه من جمال تحت غلالة تريد أن تغمرك، وتطلبك للغمر، تنطمر فيها لكنها تكون على مسرح عال مترف لا تحملك قدماك على الوصول إليه، وتمنعك قداستك من أن تصعد درجة واحدة إليه.
وحده المسرح له دائرته وطباشيره وأمومته التي لم تنجب لكنها كانت قادرة على المنح في تفاصيل التلافيف، وبقيت الدائرة وطباشيرها رمزاً لأمومة سامية سامقة لم تصل إليها أمومة أو عبارة لأنها نحتت من رحم المسرح على الخشبة، على مرأى من الناس جميعاً، وهي تطلب بفجائعية التعلق أن يبقى الوليد الذي لم تنجبه ولو كان بعيداً عنها.
وحده فطرة… لا يحتاج تقانة، ولا يستلزم أجهزة، ولا يرتبط بما حوله، فهو عالم مكتف بذاته ولذاته، عباءة وملاءة، وصدق شعور، وتماه في اللحظة، وصوت ينسرب في أعماق الخشب قبل أن ينزل باتجاه المشاهد، ويلتف تحت غلالة غير مرئية ليتعطر بمسام ينز عرقاً عطراً، ويخرج لينتشر في المدى الأرحب والفضاء البعيد حيث تتعلق العينات بما هو فوق دون تفسير لهذا الذي يسكن القبة العليا..
وحده الذي لا يحضر أي احتفالية تقام له في أي مكان، لأنه كغانية العرب التي اغتنت بجمالها عن الزينة، لا يحب المهرجان، ولا يطرب لاحتفالية مهما قيل فيها، لأنك عندما تمتدحه، فهذا يعني أنك تجهله وتتوسل إليه أن يبقى أو يعود، أو على الأقل أن يكشف لك سرّه، ووحده لا يعطي مفاتيحه لأحد، لأنه مصون يريد منك اكتشافه، يريدك أن تسبر غوره لتصل إلى سرّه بذاتك ولذاتك، وهو الذي لا يقبل معلماً، ولا يردد عبارة سبقت قبل لحظة من زمن، يفتح لك ذاته عندما يكتشف أنك في لحظة تطهر وعبادة على خشبات يسمح لها أن توصل صوتك إلى المدى المطلق في القبة.
أمن عبث عاش اليونان كل العظمة على خشبات أثينا؟
أمن عبث عجز الرومان لأنهم اختاروا الحجر؟
تطوف علينا آلهة الإغريق توزع علينا الأدوار، فإن أصابنا سهم المسرح كما سهم كيوبيد سمت أنفسنا وارتقت، وإن لم يصب رتعنا في عالم دوني لا ينظر إلى المطلق البعيد، ولا يسرع في الآفاق الطهرية.
أعيدوا للمسرح الغائب قداسة طقسه، ودعوا ما تبقى لمعبد لا يهجره النور، ولا يغادره بخور صلوات غير محدودة العدد أو الزمان أو المكان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن