«سيشل» غيت ودلالاتها
| عبد المنعم علي عيسى
لم يشكل ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في الثالث من آذار الجاري أساساً لفضيحة كبرى كتلك التي عصفت بالرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون واضطرته إلى تقديم استقالته في عام 1974، على الرغم من أن ما جاء في تقرير الأولى يفوق في معطياته تلك التي قدمها بوب وودوارد في عام 1972 على صفحات «الواشنطن بوست».
جاء في تقرير «نيويورك تايمز» أنه في 11 كانون الثاني 2017، أي قبل تسعة أيام من تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، جرى لقاء ثلاثي روسي أميركي إماراتي في جزر سيشل في المحيط الهندي، حيث الفنادق الفخمة والمعتادة على اجتماعات كهذه لا تثير أدنى شبهة، إضافة إلى أنها بعيدة جداً عن الأضواء ما يضفي طابعاً سرياً مطلوباً ولو إلى حين انتهاء مفاعيله.
حضر ذلك الاجتماع رئيس صندوق الاستثمار الروسي المباشر كيرل ديميتريف المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومؤسس شركة «بلاك ووتر» الأمنية اريك بريس المقرب من ترامب، والأميركي من أصل لبناني جورج نادر الذي قدم نفسه على أنه مستشار لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، ومن الواضح أن ذلك التلاقي كانت دوافعه مختلفة بين الأطراف الثلاثة، فهو بالنسبة للإمارات يهدف إلى تقديم خدمات مسبقة للرئيس المقبل وخصوصاً أنها باتت تسعى إلى لعب دور إقليمي آخذ بالاتساع، وبالنسبة للروس فهم يهدفون إلى فتح قنوات مع الرئيس الجديد بغرض تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليهم، لكن بالنسبة لترامب فإن المؤكد أن الأهداف كانت، ولا تزال، غامضة.
ذكرت «الواشنطن بوست» في نيسان من عام 2017 أن ابن زايد زار واشنطن والتقى أقطاباً في فريق ترامب في 15 كانون الأول 2016، وفي ذلك الاجتماع تم الاتفاق على عقد اجتماع آخر في الشهر المقبل، وهو الاجتماع الذي ذكرته «نيويورك تايمز» آنفاً أي الذي جرى في جزر سيشل.
رفض البيت الأبيض الاعتراف بالاجتماع والمؤكد أنه ستكون لذلك الرفض تداعيات مربكة لاحقاً، إلا أن ممثل ترامب فيه كان قد اعترف أمام المحقق روبرت موللر بحدوثه، الأمر الذي يشكل تحولاً خطراً في مسار التحقيق، لكن المهم هنا هو أنه كيفما سارت إليه التحقيقات في «روسيا غيت» فإن من المؤكد حدوث اختراق كبير للبنيان والدولة العميقة الأميركيين، والغريب هو أن الاجتماع قد لا يبدو مبرراً من جميع نواحيه، فما دواعي ترامب للاتصال بالروس؟ وهل يملك هؤلاء وسائل مساعدة من شأنها التأثير في نتائج الانتخابات؟ ثم ما حاجة ترامب للوساطة الإماراتية؟ وهل هو بحاجة إلى المال الإماراتي في ظل ما هو معلن بأن ثروته تزيد على ثلاثة مليارات دولار؟ إلا إذا كان تقدير بنك دويتشه الذي ادعى بأن ترامب غارق في الديون صحيحاً، وما يزيد من الوضع سوءاً هو أن ترامب نسف فريقه كله في خلال عام ما يعني أنه خلق تكتلاً معارضاً له بل معادياً أيضاً ومن المؤكد أن هؤلاء لن يدخروا جهداً في محاولات إسقاطه وخصوصاً أنهم يملكون الكثير من الأسرار ويعرفون أين نقاط الضعف ونقاط القوة، ولذا فإن السؤال المهم هنا هو ألم يكن ترامب يدرك خطورة عملية النسف الجماعية تلك؟ أم إن الخسائر المتولدة عن بقاء أولئك الذين أقالهم في مناصبهم تفوق الخسائر التي ستنجم عن إقالتهم؟!
في مطلق الأحوال سوف تحمل المرحلة المقبلة الكثير من الخبايا عاجلاً أم آجلاً، وإلى أن يحين ذلك بات من المؤكد أن الدولة العميقة الأميركية أضحت متعددة الثغرات، وإذا ما قرن ذلك مع ظاهرة ما انفكت دوائر السياسة والإعلام في أميركا تتحدث عنها، وهي تتمثل بتنامي التدخل الذي يمارسه ترامب على مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة بما فيها مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI وصولاً إلى التهديد بإقالة موللر نفسه، فإن عملية الاقتران تلك تفضي إلى نتائج مهمة منها أن ثمة تضعضعاً يعتري التركيبة الأميركية، فنجاح ترامب في التفرد بالقرار يشير إلى وجود اختلال كبير في القاعدة الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي السياسية، وربما كانت هذي الاختلالية التي يشهدها عهد ترامب أصعب من تلك التي واجهت فرانكلين روزفلت في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، وتلك التي واجهت رونالد ريغان في مطلع الثمانينيات من القرن نفسه، وهذه الحالة هي التي تسمح بالتعدي على القضاء الذي يمثل مرتكزاً أساسياً في نجاح التجربة الأميركية، والقرار الذي اتخذته المحكمة المختصة في 13 آذار الجاري برفض النظر في قضايا التعويضات لأسر الضحايا الذين خلفتهم أحداث أيلول 2001، يؤكد أن القرار سياسي بل هو يؤشر إلى تدخل رأس هرم السلطة الأميركية بشكل مباشر، إذ لا يمكن لسلطة تقع تحته أن تتمكن من فرض ما تريده على محكمة هي على درجة عالية من الأهمية وينتظر قراراتها الشارع الأميركي بكل شرائحه.