قضايا وآراء

اليوم عزّت الغوطة

| عبد المنعم علي عيسى

مر ما تقدمت به تل أبيب إلى الأمم المتحدة في الخامس عشر من آذار الجاري، والذي طلبت فيه استعادة قوات «أوندوف» إلى مواقعها على خط فصل القوات في الجولان مرور الكرام من دون أن يحظى بما تستحقه دلالاته، وتلك القوات مارست مهامها ما بعد توقيع معاهدة فك الاشتباك مع إسرائيل العام 1974 قبل أن تغادر مواقعها في أيلول من العام 2014، وآنذاك كانت تلك المغادرة تلبي مطالب إسرائيلية عدة حيث الغياب هنا، أي غياب «أوندوف»، يتيح التدخل بهدف إحداث تغييرات هيكلية في البنيان السوري من شأنها أن تؤدي إلى انتزاعه من المحور الذي يسير فيه، وعليه فإن الطلب الإسرائيلي يشير إلى إقرار الفشل في ذلك المسار الذي اضطلعت به تل أبيب مستخدمة أذرعاً محلية وإقليمية.
الراجح أن تل أبيب قرأت نتائج معركة الغوطة الشرقية جيداً، وكذا الحالة الإقليمية والدولية التي أدت إليها، ولذا فإن من المؤكد، أيضاً وفق تلك الرؤية، أن تتسع مناطق سيطرة الجيش السوري انطلاقاً من التوازنات الجديدة التي أفرزتها تلك المعركة وفي سياقها التصعيد الأميركي الروسي الذي يعتبر من الناحية السياسية قد حدث وانتهى، بل أيضاً حسمت لمصلحة الروس، فواشنطن تراجعت تحت خطر التهديدات الروسية وللأمر تداعياته حتى على الداخل الأميركي، وفي هذا السياق كانت حملة التغييرات التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إدارته مؤخراً والتي كانت سمتها الأبرز تطعيمها بـ«الصقور» كما يسمون، أشبه بمن أدرك أن النمر الأميركي قد فقد مخالبه، أو حدتها، فأراد إمدادها بمخالب صناعية يمكن لها أن تخيف الآخرين، ومن ناحية أخرى كانت تلك التغييرات تمثل حالة لتصدير الضغوط الداخلية التي ما انفكت تراكماتها تتزايد على إدارة ترامب وهو ما تبدى جلياً في حالة الإتيان بجون بولتون مستشاراً لشؤون الأمن القومي المعروف بمواقفة «الحربجية» تجاه إيران وكوريا الديمقراطية أيضاً، لكن لنذكر بأن «النمر» الجديد كان أحد مهندسي غزو العراق العام 2003 التي أدت إلى رجحان الكفة الإقليمية الإيرانية، ومن ناحية أخرى هو نمر مجرب سابقاً وقد استطاعت حرب تموز العام 2006 «قصقصة» مخالبه، وفي هذا السياق يذكر أنه كان الساعي الأكبر لإعلان وقف إطلاق النار واستصدار القرار 1701 عندما كان سفيراً لأميركا في الأمم المتحدة آنذاك.
يمكن القول إن التهديدات الأميركية لدمشق وطبيعة الرد الروسي عليها، قد فرضت معادلات جديدة ليس في المنطقة فحسب، بل على المستوى الدولي أيضاً، وقد كان من الواضح أن موسكو ماضية نحو أن ترمي بكامل ثقلها على الساحة السورية من دون أن تتراجع وهي التي خبرت جيداً مفعول «الدومينو» لأي تراجع إلى الوراء، وهي لم تدخر جهدا لمنع حدوث الضربة وقد استخدمت أقصى ما تملكه فأخرجت منظومة «اس اس 600» للمرة الأولى من روسيا، ثم قامت بنشر جنود روس في مناطق حساسة، أما الدبلوماسية الروسية فقد مارست دهاء لافتاً، وما سبق كله كان قد أزال تماماً احتمال أن تكون موسكو في معرض المزايدة وهو ما أدركته واشنطن جيداً وهو الأمر الذي تبدت نتائجه بوضوح في اجتماع البيت الأبيض الذي عقده ترامب مع كبار مستشاريه في 18 آذار الجاري وفيه كان الرأي الغالب أن لا مصلحة أميركية في الغوطة، وليس هناك وجود أميركي بري كي ندافع عنه، وعلى الفور سارعت الماكينات الإعلامية والسياسية لتسوق التراجع الأميركي، والطريف هو أن تلك التبريرات كانت قد حملت مواقف تسعى في مجملها إلى الإدهاش لا إلى الإقناع، ومما قيل إن توجيه ضربة أميركية لدمشق الآن أمر يعني تخفيض السقف الذي وضعه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما فهو قصد بالسلاح الكيميائي غاز السارين، على حين أن دمشق استخدمت غاز الكلور وهي، ونحن لا نزال في عرض ما قيل أميركياً، لم تستخدم غاز السارين منذ حادثة خان شيخون! وهذي المناخات لا تترك مجالا لقلق سوري متولد عن تلك التغييرات التي أجراها ترامب مؤخراً ولا عن حالة التصعيد القائمة، والراجح هو أن تلك التهديدات سوف تتصاعد في المرحلة اللاحقة بهدف خلق ضغوط على الأنظمة والقيادات المعادية للسياسات الأميركية على امتداد العالم، دون أن تكون لتلك التهديدات تراجم عملية، بمعنى أنها تسعى إلى استخدام التهويل في رهان على اهتزاز الأعصاب لتحصيل مكاسب سياسية بفعل تلك السياسات التي لن تخرج إلى التنفيذ.
تشير الأحداث على امتداد الجغرافيا السورية في مجملها إلى مسار إيجابي يخدم ثبات الدولة ورسوخ النظام القائم فيها، ومن المؤكد أن المراهنين على الوجود الأميركي في سورية سوف يخسرون الرهان، فهذا الوجود ليس معنيا بـ«حقوق» أو «مطالب» لشرائح تعتبر نفسها حليفة له، وإنما هو يهدف بالدرجة الأولى إلى منع حدوث حالة تلاحم إقليمية يمكن لها أن تشكل خطراً حقيقياً على الوجود الإسرائيلي، وهو بالمطلق لم يستطع تثبيت مبررات وجوده، لكن من المهم هنا أن نقول إنه يعمل على خلق تلك المبررات، وهو ما يمكن لحظه في عملية نزوح المسلحين إلى إدلب حيث المقدر، أو المخطط، أن يتم فتح الجغرافيا ما بين إدلب وعفرين بعد الوصول إلى تفاهم مع أنقرة مما يمكن له أن يخلق حاله داعمة للوجود الأميركي في الشرق السوري، ثم إن ذلك الوجود لن يلبث أن يلقى معارضة أميركية داخلية وخصوصاً إذا ما شهد خسائر بشرية وعندها سوف تخرج التساؤلات العديدة إلى العلن من نوع: ماذا نفعل في سورية؟ ولماذا نحن هناك بعد زوال داعش؟ ثم إلى متى؟
في مقلب آخر يمكن القول إن الأزمة السورية والدور الروسي فيها قد شهدا في الآونة الأخيرة تحولاً مهماً، فاللحظة السياسية التي استولدت «عاصفة السوخوي» في 30 أيلول 2015 كانت مرتهنة بموافقة ودعم أميركيين، ومن الطبيعي أن يكون من يعطي الموافقة في موقع القوة التي تومئ فيفهم الآخرون دورهم، أما اللحظة السياسية الراهنة في آذار 2018 والتي تولدت في رحم مخاوف بحدوث مواجهة روسية أميركية بات من المؤكد أن الجسد الروسي قد خلع القميص الأميركي الذي كان يرتديه وارتدى زياً آخر خاصاً به، ولا أهمية هنا في هذه الحالة لكون المواجهة قد حدثت أم لا، فنتائجها أضحت واقعا سياسيا لا يمكن تجاوزه إلا بما هو أكبر منه، ومن المؤكد أن سير العمليات المقبل سوف يخضع لاحقاً لذاك الواقع، وربما كانت السرعة الكبيرة التي استطاع الجيش العربي السوري بها بسط كامل سيطرته على الغوطة الشرقيه تعود أيضاً لهذا الأخير على الرغم من أن تلك العودة تأتي في سياق موضوعي وتاريخي تفرضه الحقائق التي يصعب الخروج عنها وإن حدث فإن ذلك يكون إلى حين.
المؤكد أن الجيش السوري سوف يبسط سيطرته تدريجيا على كامل الجغرافيا السورية انطلاقا من هذا السياق الأخير، فما جرى في الغوطة، وسيجري في باقي المناطق، كان يمثل حالة اشتياق «غوطة شرقية» لحضن دمشق ولحضن قاسيون بعد طول افتراق، ومهم هنا أن نقول إن نتيجة المعارك لم تكن هزيمة لطرف سوري أمام طرف سوري آخر، ومن هزم فقط هم «الجلبيون» السوريون الذين أرادوا الدخول إلى دمشق على برج دبابة أميركية تماماً كما فعل أحمد الجلبي بدخول بغداد بعد سقوطها في العام 2003.
في السنة العاشرة للهجرة استطاع المسلمون فتح مكة، ولم يكن ذلك الفتح عسكرياً بحتاً وإنما كان أشبه بحالة اشتياق «مكية» لرياح الدين الجديد، وفي أعقاب ذلك الدخول حدث أن قام المسلمون بتكسير الأصنام وهم يصيحون «الله أكبر»، ومن بعيد علا صوت أحد الصحابة قائلاً: «اليوم ذلت قريش» فالتفت إليه الرسول الكريم (ص) بغضب وأجابه: «بل اليوم عزت قريش».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن