لماذا ينتحر الشعراء والمبدعون؟
| د. رحيم هادي الشمخي
التاريخ الإبداعي زاخر بالانتحارات الشهيرة التي بقيت محافظة على غموضها وسرها، فالموت الغامض المفاجئ طال أدباء وشعراء ومثقفين عرباً وعالميين كُثراً، حيث يصعب على الكثيرين منهم مغزى أو تأويل مسبباته رغم المحاولات المتكررة في فك طلاسم هذه الحوادث، وإذا كانت هذه الظاهرة بدأت خجولة منذ العصر الجاهلي، حيث لا تقع أيدينا إلا على القليل منها، ولاسيما قبل بداية القرن العشرين، إلا أن الباحثين يشيرون إلى أن انتحار (طرفة بن العبد) و(عمرو بن كلثوم) وثمة ترجيح بأن يكون (أبو حيان التوحيدي) قد فعل ذلك، ومع هذا فقد حفل القرن العشرين بالكثير من الأسماء العربية اللامعة في مجال الأدب والشعر والإبداع أقدمت على هذه الخطوة، أما عالمياً فقد شهد القرن العشرون الكثير من حوادث الانتحار التي امتدت من الشرق إلى الغرب، كان أبطالها شعراء وروائيين ونقاداً ومثقفين.
فقد أحصت الكاتبة اللبنانية (جومانة حداد) في كتابها الموسوم (سيجيء الموت وستكون له عيناك)، انتحار نحو 150 شاعراً في القرن العشرين بينهم 15 شاعراً عربياً.
وإذا عدنا إلى التاريخ فثمة من الدارسين من يقول إن طرفة بن العبد وعمر بن كلثوم وأبا حيان التوحيدي انتحروا، وهنا لم يختلف النقّاد بخصوص هذا الموضوع كثيراً، مؤكدين أن انتحار الشعراء والمبدعين في الأغلب يكون مدعاة للحزن، لكونهم أكثر الناس حساسية، متهمين عشرات الأسباب التي تقف وراء ذلك والتي تأتي الأسباب الاجتماعية والنفسية على رأسها، حيث يعيش الشاعر وطموحاته وتطلعاته التي يرجو تحقيقها، لكن أياً من تلك الطموحات تصطدم بالواقع المرير وهو ما يؤدي إلى دخول الشاعر والمبدع بحالة من الإحباط والاكتئاب الشديد.
إن موضوع الانتحار لدى الأدباء والمفكرين العرب كظاهرة معاصرة لم تكن في العصور القديمة بهذا الشكل الذي نجده الآن كما يقول المفكر العربي الدكتور محمد جابر الأنصاري: (إن النزعات الانتحارية لدى المبدعين العرب موجودة باعتبارهم من أكثر الشرائح ميلاً للانتحار من أجل القضية لغلبة الجانب المبدئي القيمي على تكوينهم وتفكيرهم ويشبههم بالرهبان البوذيين الذين يشعلون النار في أنفسهم للاحتجاج على الظلم أو للتنبيه إلى قضية عادلة).
ونجد هنا أن الانتحار هو حالة سيكولوجية لا غير، فلماذا يتحول أحياناً إلى حالة خاصة ومجال للتأويل الفلسفي؟ هل انتحار الأدباء أو المبدعين بتعبير أشمل وأدق يمنحه تعريفاً آخر؟..
لقد انتحر كتّاب ومثقفون ومبدعون أمثال (عبد الباسط الصوفي، وخليل حاوي، ومهدي راضي السعيد، وأبو السعود، والشرنوبي، وصلاح جاهين، وتيسير السبول، والروائي يوكيو ميشيما، والشاعر سيرغي بسينين، وآرنست همنغواي، وغيرهم)، والموت الغامض المفاجئ طال كتّاباً وشعراء عالميين كثراً، منهم شاعر الثورة البلشفية (فلاديمير مايكوفسكي) صاحب (غيمة في بنطلون) الذي فضل أن يضع حدّاً لحياته بطلقات من مسدسه داخل غرفته عندما كان برفقة حبيبته، قبل ذلك قال جملته المشهورة: (زورق الأحلام اصطدم وتحطم) لعل موته الفعلي كان منذ كتابته هذه الجملة.