ألمٌ بلا أنين
| د. نبيل طعمة
لعبة عضّ الأصابع حياة مقابل حياة، ووجود مقابل وجود، هل نقف متفرجين أمام كل هذه الحرائق؟ من يطفئها، ولماذا اشتعلت، ومن أجل ماذا؟ الأفضل أن نسأل لماذا أشعلوها، وعن الكيفية التي يتمّ بها إخمادها، ما ينشئ المزيد من الأسئلة، أهمها الموت من أجل الموت، من يحيا، من ينجو، من يموت، من يصل الآخرة، كي يسكن الجحيم، النار، ويكون وقوداً للدرك الأسفل منها؟ أو يدخل جنان الخلد بآثاره التي أنجزت لحظة أن كان حياً، يحيا الحياة بلا انتظار، أعباء مذهلة يتحملها تراب أرض البشر الذي نَدبُّ عليه، ينادي: متى ينهمر المطر؟ ثقة لمن تمنح؟ وقبل ذلك من أين نستمدها؟ من يحق له العطاء من خلق للطيران؟ لن يتقبل الزحف، ومن خلق ليزحف لا يحق له الطيران، كيمياء تحتاج إلى طرفين، كي يكون هناك قادم جديد، اثنان زائد واحد ينتجان نتيجة، وهما طرفان، ما يعني أنَّ واحداً زائد واحد يساوي اثنين، كيف بذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين تعطي الماء، محتمٌ أنَّ علاقةً كهذه تستحق الانتباه، واخترت هذه المعادلة لأنها تعني الحياة.
الحياة لا تموت، وكذلك هو حال التاريخ الذي يعمل جاهداً على تراكم المعرفة بأحوال الأمم والشعوب والدول، لذلك هو أيضاً لا يموت الأحياء، الذين يحيون بينهما يموتون، لأن الموت يمثل الحقيقة الفريدة التي يستطيع الإنسان الوصول إليها، يذهب إليها هادئاً، أو تخطفه صاخباً، أو ينهيها بإرادته، وهذا نادر حدوثه، يتألم التاريخ ومعه الحياة، يراقب الزمن الأحاديث المتصلة التي لا تنقطع عن صدامات حضارية ومواجهات ثقافية ومناقشات حادة بين عالم الشمال وعالم الجنوب، بين الروحي والمادي، والتراجعات الهائلة أمام مبادئ تكافؤ الفرص والعدالة والقانون وتطبيقاته، لا حياة، ومهما كانت ميزاتها من دون وطن، ومن دونه يكون الموت أرحم، لأن أفراده أبناؤه المرتبطون فيه، مهما حققوا من حضور خارجاً عنه، فما يطلق عليهم أنهم أجانب أو مجنسون مهاجرون، لاجئون، مشردون، فالأوطان حقائق، وليست أفكاراً، لأنها تجسد اتحاداً، لا انفصالاً أبدياً بين الجغرافيا والإنسان، كما هو حال الوليد وأمه والجذور وتشبثها في أماكنها التي تتشكل من هذه العلاقة الهوية المسكونة في الأعماق البشرية، كالتاريخ الموغل في القدم والمنتظر للإنجاز، تستدعيها الأمم والشعوب والأفراد، تحقق معها الآمال المنشودة حاضراً أو في المستقبل، تشكل لها حمايات عبر الأصالة والتراث ضمن مجموعات الحداثة.
محاولات تجري بقوة لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، عناوين ومصطلحات تبث وتنثر هنا وهناك الحرية، العبودية، الاستعمار، الديكتاتورية، العنصرية، الرأسمالية، ناهيك عن الأديان ومشتقاتها التي لا تعد ولا تحصى، كل هذا يحدث برأيكم من فراغ، مؤكد أنه يجري ضمن ترتيبات دقيقة، الثابت فيها يشير إلى تدمير البقايا الإنسانية التي لم تقدر بعد على تلبية مطالب حركتي التاريخ والمستقبل اللتين يشهد عليهما الزمن، الذي يسعى دائماً لتحقيق عملية التوازن الطبيعي، وأهمها البيئي الذي يشكل موضوع المقارنة الدقيق بينه وبين البشري المتعدي عليه، ما يفقده قوته، ومعه تفقد البشرية الباحثة عن التماسك من أجل البقاء، وهذا يأخذ بنا لفهم قوة الضغط الهائلة التي تمارسها المجتمعات، القوة في كل شيء على المجتمعات الباحثة عن القوة، والضعيفة في كل شيء، هذا يشير إلى الصمت القادم من البحث والضعف، وهنا نريد أن نؤكد ضرورة ربط التجربة بالواقع والبحث عن نتائجها.
هل المجتمعات من أنجب السياسة أم العكس؟ ومن ثمَّ، هل الألم منتج من كليهما أم من أحدهما؟ هذا المولود الذي من دونه كيف كانت الحياة البشرية، وهل السياسة مسؤولة عن إنتاج وتفعيل المقدس والمدنس وإدارة المال؟ هل يمكن أن نتصور أن الحياة من دونه بلا تاريخ، بلا سياسة، بلا أديان، كيف كنا لنكون، وهل كنا لنسلك مسالك السلوك؟ هل نتفكر في سيادة العقل وسيطرته على كل شيء؟ وهل يستطيع العقل تجريد الجسد من آلامه ومعاناته من معاركه اليومية من إيمانه أو يقينه بأنه لابد من مفارقة هذه الحياة، مهما كان شكلها، أو مصنف ضمن جدولها، لذلك ينبغي على جميعنا أن نتفكر بأسباب وجودنا، ولماذا نحن مختلفون في المظهر، وموحدون في الجوهر، وفي نظم التفكير، وفيما نعتقد أن كل هذا التنافس لم يكن إلا من أجل أن ننسى الحقيقة، ويكون ذلك بالعمل، ومعه يكون النجاح والفشل، الفوز والخسارة، التقدم والتقهقر، الثبات والتحول، كل هذا يخصُّ الإنسان فقط، لأن الطبيعة لا تحيا لذاتها، فالأنهار لا تبتلع مياهها، بل تبحث عن طريق وصولاً إلى البحار متَّحدةً فيها. والأشجار لا تأكل ثمارها، بل تقدمها هديةً من أجل استمرارها. والشمس تلتهب إشراقاً على الحياة، لا لذاتها. والقمر ينار من أجل أن ينير ظلمات الضالين، لغاية اكتشاف سبلهم.
حالات أبدية يتوقف عندها البشر، وحدهم يفعلون كل ما يخالف ذلك، فإذا كان قانون الطبيعة بكل ما فيه مع محيطه الكوني يعمل لأجلنا، فكيف بنا لا نكون سبباً لإسعاد حياتنا بدلاً من حمل الآلام، أو تحميلها لبعضنا.
لننظر في الذي حدث بعد تشتت منظومة الإنسان وتحولها إلى قبائل وشعوب وأمم، وتراجع القواسم المشتركة فيما بينها بشكل مريع، وبين إنسانيتها وبشريتها وانهيار قيمة وقوة الاهتمامات المشتركة، وتحول الأفعال البشرية إلى إنجاب الآلام الأكثر حدةً، ما زاد في فرقتها، وعزز فرص اقتناصها واغتصابها لبعضها، وهدمها لكياناتها، وأهمها هدم الفكر والذات، فظهرت التحديات الجمة حول الحماية وتأمين الذات والكيان وتطوير القوى المادية، بدلاً من البحث الجدي حول التخلص من الآلام المباشرة أولاً، والاتجاه لغيرها لاحقاً.
لنتذكر ونتحاور، كيف أنَّ العقل البشري غدا ضحيةً للأديان والأيديولوجيات ومنظومة القيادات السياسية اللاهثة وراء المادة بشكل جشع وبلا وعي؟ إلى أين.. لا يسأل؟ المهم الوصول إليها والحصول عليها.
لنتفكر في الاختلافات والانقسامات والمنتجات المادية التي راكمت الخوف بدلاً من تبديده وإحلال مكانه الحب للحياة وللكينونة التي تنهي آلاماً مضافةً على آلامه الذاتية التي يسمع أنينها، أما آلام الحياة الكبرى وهي الأخطر؛ أي آلام الفكر والتفكر والإبداع والإنتاج والتأمل والإصلاح وإعادة الأخلاق أو تطويرها، فهي بلا أنين، وفيها الأمل بالوصول إلى مجد الإنسان الذي وجد ليتربع عليه.
من أين يحضر الأنين الصامت؟ من الخوف الذي يرسم في العقل أرهب النهايات، وبشكل خاص عندما يكون غامضاً ومتبعثراً ومسيطراً من دون أسباب ملموسة، وإذا كان شعار زمننا الراهن الخوف من كل شيء، وهو يحيط بكل شيء، فكيف بنا نتقدم إلى المستقبل؟ وكيف بنا نتخلص منه؟ هل يتم ذلك بتحرير العقل من كل الذي سرنا به، لنصل إلى نتيجة أن شكم الطبيعة وإخضاعها بغاية التحكم بها لن يحصل، لأننا كلما استهلكناها، نستهلك معها، وتزداد معاناتنا، وتتفاقم آلامنا، ومعها سينفجر أنيننا الصامت، فإلى أين؟ إلى اللعبة المستمرة التي أجزم أنها لن تنتهي، لتبقى الحياة مقابل الحياة، واحدة معروفة، والثانية مجهولة، يملؤها الخيال والأحلام بالجنان، والخوف من النار ألم بلا أنين، حالة فكرية أدعوكم للتوقف معها وفردها على طاولات البحث من أجل الغد.