تفاوض وراء الكواليس استعداداً للمرحلة الجديدة
| أنس وهيب الكردي
تدور رحى مفاوضات وراء الكواليس، وكل شيء يوحي أن مسننات وعتلات هذه العملية سائرة بالرغم من جلبة المعارك ومشاهد خروج المدنيين ونقل المسلحين، وليس الهدف من المفاوضات الجارية، بالضرورة، تحقيق تسوية للأزمة الإقليمية العامة ومركزها سورية، بل قد يكون تدشين مرحلتها الجديدة التي قد لا تقل عنفاً عن سابقاتها.
نالت روسيا دعماً تركياً قطرياً وإيرانياً، لعملية الجيش السوري في غوطة دمشق الشرقية، جعل المعركة المحسومة، أقصر مدى زمنياً، وأقل كلفة بشرية، وجاءت نهايتها تسوية مكاسبها صبت في مصلحة الجميع، بالنسبة للمسلحين أنفسهم الذين خسروا المعركة، خرجوا بأنفسهم وعائلاتهم إلى مكان آمن حالياً، أما الجيش السوري وبدعم الحلفاء وخصوصا الروس فقد أنهى بؤرة كبيرة للمسلحين في محيط دمشق من دون تكاليف كبيرة، وبدورهم، كسب القطريون صداقة روسيا وباتوا منضوين بالكامل في سياق عملية أستانا والحل السوري الذي تقترحه موسكو، والأتراك تحصلوا على آلاف المسلحين شديدي البأس، وقد يزيدون أكثر إذا خرج مسلحو ميليشيا «جيش الإسلام» المتحصنين في مدينة دوما إلى إدلب، ولن تعدم أنقرة جبهة جديدة تشعلها لزجهم في أتونها.
لم تكد عملية الغوطة الشرقية تدخل مراحلها الختامية، حتى أعلنت مجموعات مسلحة في مناطق من درعا عزمها تبني «البرنامج الروسي للمصالحات»، وذلك بينما تكاثرت المؤشرات على عزم الجيش السوري وحلفائه شن حملة عسكرية جديدة في مناطق جنوب دمشق، والقلمون الشرقي، ولم يكن أمر بهذه الأهمية أن يتحقق، وبهذه الطريقة السلمية، لولا مفاوضات روسية أميركية أردنية غير علنية انعقدت على خلفية ضربات الطيران لمواقع المسلحين في الجنوب، وما تلاها من تهديد أميركي وأوروبي باستهداف مواقع الجيش السوري في دمشق ومحيطها، تلاه رسائل روسية شديدة اللهجة حول استعداد الجيش السوري ودفاعاته الجوية للتعامل مع أي ضربة أميركية جوية.
الضربات الجوية على مواقع المجموعات المسلحة بدرعا ربما لم تكن أكثر من رسالة تحذير للمسلحين لتعقيلهم ومنعهم من الإقدام على أي رد فعل على تقدم الجيش السوري في غوطة دمشق الشرقية، مع ذلك فهي مع توجه حشود من القوات السورية إلى الجنوب طرقت جرس إنذار في الولايات المتحدة والأردن خوفاً من اضطرارها إلى خوض معركة قاسية وفي وقت غير مناسب سواء بالنسبة للأولى التي ينشغل رئيسها دونالد ترامب بتطهير إدارته من مناوئيه، والثانية لأنها ستضطر لتحمل كامل تداعيات معركة الجنوب الإنسانية والسياسية والعسكرية من أمنها واستقرارها، وذلك بينما تمر البلاد بأزمة اقتصادية طاحنة من دون مدد غربي أو سعودي، وسط تباعد في الخيارات الاستراتيجية ما بين عمان من جهة وواشنطن والرياض من جهة ثانية، سواء حول سورية أو القضية الفلسطينية.
أثمرت المفاوضات عن تهدئة في الجنوب، أطلقت يد الجيش السوري لاستكمال عملية الغوطة الشرقية، وأفسحت أمامه المجال كي يطلق معركة جديدة من أجل زيادة طوق الأمان في جنوب العاصمة وحولها في القلمون الشرقي، تنتهي بإعلان دمشق وريفها منطقتين آمنتين بالكامل، ولأن معركة جنوب دمشق ستنتهي بخروج مسلحي تنظيم داعش المنتشرين في أحياء وبلدات القدم والحجر الأسود ومخيم اليرموك، إلى الشرق السوري، فسيكون لها تداعيات على المشهد هناك، حيث تتواجه قوات الجيش السوري وحلفاؤها من إيرانيين ولبنانيين وعراقيين وروس، مع «قوات سورية الديمقراطية – قسد» وحلفائها الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين، بينما يعيد داعش تنظيم صفوفه وبناء قدراته، شاناً مزيداً من الهجمات على مواقع الجيش وحلفائه في مدينتي البوكمال والميادين.
تشير بعض التقديرات إلى أن قوات الجيش الأميركي المتمركزة في شرق سورية تغض الطرف، إن لم يكن أكثر، عن إعادة داعش بناء تنظيمه هناك، عله يعرقل الجيش السوري وحلفاءه عن تنفيذ عمليات هدفها زعزعة استقرار الوجود الأميركي شرقي نهر الفرات، ولاحقاً كي تستخدمه ذريعة لشن هجوم على منطقة البوكمال، التي سيطر عليها الجيش السوري صيف العام الماضي، والتي مكنته من دق أسفين ما بين مناطق النفوذ الأميركي في التنف وشرقي دير الزور.
تركيا المطلعة بشكل أو بآخر على مفاوضات درعا، والتي كانت الطرف الإقليمي المفاوض على الطاولة إلى جانب القطريين مع الروس حول عفرين والغوطة الشرقية، منخرطة أيضاً في المفاوضات مع الروس والأميركيين حول مصير منبج وتل رفعت وغرب حلب وريف حمص الشمالي وإدلب، ومناطق شرق نهر الفرات.
هذه المفاوضات تدور، بحسب ما يتم تسريبه من معلومات غير مؤكدة بعد، حول إطلاق يد قوات الجيش التركي وحلفائه من ميليشيات عملية «غصن الزيتون» في مناطق تل رفعت ومنغ والشيخ عيسى الخاضعة لسيطرة ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية مقابل إطلاق يد الجيش السوري وحلفائه لطرد مسلحي «هيئة تحرير الشام» من غربي مدينة حلب، موسعاً بذلك طوق الأمان حول المدينة الثانية في البلاد، كما أن المفاوضات الثلاثية الروسية الأميركية التركية تتمحور حول قبول الولايات المتحدة بمبدأ إجلاء عناصر «وحدات حماية الشعب» ومجلس «مدينة منبج العسكري» المنضوين تحت لواء «قسد»، وعناصر الجيش الأميركي من المدينة، وتقسيم منطقتها إلى قسمين شمالي سيكون تحت سيطرة مسلحي عملية «درع الفرات»، المدعومين من تركيا، وجنوبي يشمل مدينة منبج نفسها تدخله قوات الجيش السوري.
تروج أنقرة لوجود تفاهمات مع واشنطن حول تأسيس منطقة عازلة على طول الحدود الشمالية من سورية شرقي نهر الفرات، وبعمق خمسين كيلو متر يجري طرد «وحدات حماية الشعب» منها، وذلك من أجل تعزيز الأمن القومي التركي.
وإذا ما صحت المعلومات السابقة فإنه وبهذا الترتيب سواء في غوطة دمشق ودرعا ومنبج وعفرين وتل رفعت، تكون تركيا وروسيا قد أدارتا عملية تقليص النفوذ الأميركي في مناطق غربي سورية، واضطرت واشنطن إلى قبول النتائج، لكن يبدو أنها تعمل لتعزيز سيطرتها في الشرق.
ستظل روسيا وتركيا والولايات المتحدة والسعودية والأردن، منخرطين في مفاوضات خلفية، حول دوما ومنبج والقلمون الشرقي وجنوب دمشق وغرب حلب وتل رفعت، ولاحقاً حول ريف حمص الشمالي، درعا والقنيطرة وإدلب، وذلك بينما تتحضر كل دولة لمرحلة مقبلة من التوترات العميقة. تلك التوترات ستشتعل بين واشنطن وموسكو وأنقرة والرياض وطهران حول مصير شرق سورية، وبين الولايات المتحدة وإيران حول الهيمنة الإقليمية ومستقبل العراق، وبين واشنطن وموسكو حول ما إذا كانت روسيا نداً للولايات المتحدة في عالم متعدد الأقطاب.