ثقافة وفن

فامشوا على اللهب المقدس مشية الحرّ المهاب … توفيق زيّاد.. اعتمد الأيديولوجيا ورأى أنها قابلة للتطبيق

| أحمد محمد السح

برز بعد نكسة حزيران عام 1967 ثلاثة شعراء في فلسطين المحتلة، هم محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، وقد اعتاد الناس ترتيبهم وفق هذا الترتيب اعتماداً على الشهرة أو الفنية أو الالتزام، لكن توفيق زيّاد كان النموذج الأوضح للالتزام بمعناه الحرفي، فهو شاعر لا يمكن نكران شاعريته لكنه لم يعتمد الفنية في شعره، بل اعتمد على لغة القضية، ولغة الأيديولوجيا لنصرة قضيته وقضية بلاده التي عاشها وناضل لأجلها. ومات في سبيلها.

من خلال ماركسيته عاش أوجاع الشعوب المظلومة عبر الأرض
يستطيع النقاد القول إن توفيق زيّاد كان ماركسياً في كل ما قاله، لأن كلمة «اشتراكي ملتزم» هي تخفيف لفظي في الصياغة أثناء توصيف حالة زيّاد الشعرية، فهو شاعر ماركسيٌّ ملتزم بقضية بلاده من مظلوميتها الكونية لأنها وطنه أولاً وأخيراً، ولأنها مظلومية إنسانية برزت فيها وحشية الاستعمار والإمبريالية في أبشع سلوك للاضطهاد في التاريخ، ومن خلال ماركسيته هذه عاش كل أوجاع الشعوب المظلومة عبر الأرض فكان إلى جانبها في قصيدته وفكره، وهو يعتمد الماركسية كنظرية قابلة للممارسة يعيش إمكانية تطبيقها في الواقع ويحاول الالتزام برسم الخط الصحيح لهذه الممارسة لكي ينصاع الواقع لرؤية النظرية الماركسية التي اعتنقها توفيق زيّاد وكثير من أبناء جيله مبكراً يوم كانت النظرية تعيش زهوة انتصاراتها في مواجهة الرأسمالية العالمية؛ التي كانت تبذل كل جهدها لإخضاع الشعوب المستضعفة في العالم لنهب ثرواتها، وتحويل أبناء هذه الشعوب إلى عبيد مباشرين لها.
في شعر توفيق زيّاد ملامح للشعر الرومانسي

اعتمد توفيق زيّاد في التزامه عبر الشعر على الكلاسيكية، والمباشرة في طرح فكرته والابتعاد عن الإطناب اللفظي والفني والجمالي، معتبراً أنه بهذه الطريقة قادر على الوصول إلى الجمهور الذي هو هدفه الأساسي في الشعر، والذي سعى إلى ربطه (أي الشعر) بالجماهير، لإلهاب حماستها كعامل إيجابي في النضال الوطني والإنساني، مع أن في شعر توفيق زيّاد ملامح للشعر الرومانسي الذي ساد في الثلاثينيات والأربعينيات، لكن العلامة الأبرز والتي كان هو من قادتها هي الواقعية الاشتراكية أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وكان أبرز سماتها والتي عاشها وقالها هو الاهتمام بالمناسبات الثورية والأحداث والشخصيات، وهو الذي قال «أمام ضريح لينين» في ديوانه «شيوعيون»:
( كأني ولدت من جديد
كل الشموس في يدي وأجمل الورود
… ماذا يقدر الشقيّ أن يقول؟!
وجدت أن الصمت يا معلم الأجيال
أصدق من كل الذي..
يمكن أن يقال)

تنازل عن رؤيته ليعطي الجماهير ما تريد
شاع شعر المقاومة العالمية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي أوائل الخمسينيات وبعد الحرب الأهلية الأوروبية، انتشر شعر المقاومة وبدأت حركات التحرر العالمية التي انعكست في السياق الإنساني وساعدت على الانطلاق بالقصائد الماركسية في أوائل الخمسينيات، فكان الشعراء يهبون أنفسهم للإنسانية أينما كانت، وكان الشعراء يقدمون للجماهير رؤيتها متنازلين عن رؤيتهم وأهوائهم، كما أن الشاعر يصف الأحداث وصفاً خارجياً من دون مساهمة فيها، كما في قصيدة «إلى عمال آتا المضربين» من ديوانه «أشد على أياديكم»:
(إخوتي في الكفاح! هذي التحية
ذوب قلبي حروفها النارية
لقطتها يد الكفاح الفتية
من هنا.. من مدينتي العربية)

مجموعته «شيوعيون» مثال لسمات التيار التقليدي
من هذا المقطع تظهر القافية التقليدية والغنائية في الصورة التي قاطعتها القصيدة الحديثة وانقلب الشعراء على التفعيلات وانتقلوا إلى قصيدة النثر، بعد أن اهترأت القافية، وزالت حالة الاشتغال على الصور التقليدية المشابهة للتصوير الفوتوغرافي، وهذه المرحلة الشعرية كانت تشبه ذاتها ونتاجها، حيث يعتقد الشاعر أنه بكلماته سيعيش الواقع ويكون محركاً له. في شعر زيّاد تيار تقليدي من الواقعية يظهر الغضب ويريد التعبير عن هويته بشكل مبكر وهو قادر على إحياء اللغة الفنية للشعراء ولغتهم بكل ما فيها من غضب وإلهاب حماسي. ففي مجموعته «شيوعيون» على وجه الخصوص يبرز هذا الاتجاه بشكل واضح، فقد اهتم بالمناسبات والشخصيات والأحداث الثورية الكثيرة، مع أن شعر المناسبات في رأي الكثيرين، لا جدوى منه وهو أبعد ما يكون عن الشعر وروحه، وفي مجموعته هذه «شيوعيون» لا تقدم شعراً صافياً إنما وصفاً وأحداثاً مع أنغامها ووصفها الخارجي كما في قصيدته الموجهة إلى الثائر الإفريقي (لومومبا):
(يا إخوتي المتزنرين على البنادق، والحراب
في قلب إفريقية السوداء.. في خضر الشعاب
إنا نراها ثورة التحرير تقرع كل باب
فامشوا على اللهب المقدس، مشية الحر المهاب)

يعترض النقاد على الخطابية في شعره
يمكن لناقد معاصر اليوم أن يجد أسوأ صفات الشعر الحديث في شعر توفيق زيّاد ومنها الخطابية فهو يعتمد على الوصف الخارجي والسرد الظاهري، وهو ما ميّز كل قصائد مجموعته «شيوعيون»، لكن الغضب الخارجي سمة أيضاً ميزت شعر توفيق زيّاد وكان من بين القصائد التي برزت فيها هذه الصفة قصيدة «رجوعيات» من مجموعة «أشد على أياديكم»:
( أنا باقٍ،
ولن تقوى عليَّ
جميع صلباني
أنا باقٍ،
سأحمي كل شبرٍ من ثرى وطني
بأسناني!!..)

تخفف من الأيديولوجيا في شعره قبل اغتياله
وشعر الغضب الخارجي يمتاز بصدقه وعفويته على الرغم من عدم جدواه من حيث النفعية المباشرة للأغراض التي كان يسعى إليها، لكن الشاعرية العالية برزت في المرحلة التي سبقت وفاة توفيق زيّاد فجاد بأجمل قصائده لأنه اتجه ليقول شعراً صادقاً صافياً متخلصاً من عبء الأيديولوجيا ومتخففاً من فكرة القصيدة التي تستطيع أن تحرر وطناً بأكمله وتوحد شعوب العالم، فجاءت بعض قصائده هادئة وهامسة ومليئة بكل ما فيها من أحاسيس ومنها «على جذع زيتونة» من مجموعته «ادفنوا أمواتكم وانهضوا»:
(سأحفر كل ما تحكي لي الشمسُ
ويهمسه لي القمرُ
وما ترويه قبّرةٌ
على البئر التي
عشاقها هجروا..!)
في ديوان توفيق زيّاد الصادر عن دار العودة في بيروت كثير من الشعر وكثير من التاريخ والأخبار، وكثير من النغمات، لكن من يريد أن يقرأه ليحاكمه خارج سياقه الفكري والتاريخي والنفسي، سيكون ظالماً لتوفيق زيّاد كشاعر حاول أن يكون الشعر لديه عملية توظيفية، تخلى فيها عن ذاته من أجل أن تسمو البلاد والفكرة والإنسانية وفق منظوره وأيديولوجيته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن