محاكم الجرائم الإلكترونية.. ماذا بعد؟
| فرنسا- فراس عزيز ديب
منذُ أن صدرَ مرسوم إحداث المحاكم المعنية بالجرائم الإلكترونية انتشر عند كثرٍ من السوريين ردةَ فعلٍ يكسوها الخوف واليأس، تحديداً أن اسم المولود القضائي الجديد كافٍ لبث الرعب وتحويل البعض عبر مواقع التواصل الاجتماعي من الكتابةِ عن همه المعيشي إلى الشعر والمعلومات المفيدة من مبدأ «بعد عن الشر وغنيلو»، ليطفو على السطح سؤال مطّاط: هل إنشاء هذهِ المحاكم مناورةٌ لتقييد الحريات؟
في واقع الأمر تبدو حالة الخوف تلك مبررة لأنها ناتجة عن الجهل النسبي بهذه المحاكم واختصاصاتها، وهذا الأمر تتحمل مسؤوليته وزارتا الإعلام والعدل اللتان بدتا مقصرتين في شرح هذه الأمور، فقانون ومحاكم بهذه الأهمية تحتاج إلى ندواتٍ متعددة ليعرف المواطن ما لهُ وما عليه، ولا ندري ربما لا نستطيع أن نجدَ متسعاً للوقت في بثنا الإعلامي لتكرارِ شرح موضوعٍ بهذه الأهمية وسط العدد الهائل من «الباحثين الإستراتيجيين» الذين يقتحمون شاشاتنا يومياً، أما الأمر الثاني فهو مرتبط بما عاشه المواطن خلال الأشهر الماضية من تهديداتٍ من بعض أعضاء مجلس الشعب بسعيِهم لاشتراعِ قانونٍ يحميهم من النقد أو التعرض لهم بوصفهم «رموزاً»، هي مفارقة غريبة عند من يحملونَ لقب ممثلي السلطة التشريعية وهمومَ المواطن، لكنهم كانوا كمن زاد في همومِ المواطن نغماً، ليشعر المواطن وكأنهُ بات محاصراً بمحاكمَ وتهديداتٍ بما هو أسوأ، وأن كلمته باتت محسوبةً عليه حتى لو قالها من بابِ النقد الهادف على صفحات التواصل الاجتماعي.
بدايةً لا بد من التوضيحِ أن قانون الجرائم الإلكترونية موجود في كل دولِ العالم بل ربما تكون سورية أحد أكثر الدول تأخراً في تشريعهِ، إذ صدر القانون المتعلق بهذه الجرائم في العام 2012، أما إحداث المحاكم المختصة فاستغرق ست سنوات، لكن هناك من اختزل الفكرة العامة لهذا القانون بمراقبة ما يُقال عبر مواقع التواصل الاجتماعي بهدف فلترة أصحاب الآراء الناقدة تمهيداً لمحاكمتهم، لكن الواقع مختلف ومصطلح الجريمة الإلكترونية قد يأتي في آخر اهتماماته موضوع «إبداء الرأي» لأنه جاء أساساً كنتيجة منطقية للتطور التكنولوجي والتجارة الرقمية والنشر والإبداع على الشبكة العنكبوتية وتحويل العالم إلى قرية صغيرة، مما مهدَ لاتساع نطاق الجرائم المرتبطة بذلك، كسرقة الحسابات المصرفية أو الابتزاز بنشر صور ومقاطع فيديو خاصة للضحية واللائحة تطول من تلك الجرائم، أي إنك عزيزي المواطن إذا لم تكن من هواة السرقة أو الابتزاز الإلكترونيين، فإنك لستَ معنياً بهذا القانون ومحاكمهِ لنصل إلى ما يشغل بالك أي؛ «حرية التعبير»، ولكي تتضح الصورة لا بد من تناول ممارسة الحرية الأقدس من مستوياتٍ ثلاثة:
المستوى الأول، وهو المرتبط بحق النقد: النقد هو شكلٌ من أشكال حرية التعبير قد يأخذ أساليب مختلفةٍ بما فيها «النقد الساخر» الذي يُعتبر في الدول المتقدمة أحد أهم أنواع النقد نظراً لصعوبةِ إيجاد من يتقنونهُ، ولأنه قريب من مختلف فئات المجتمع لكونه يحوِّل الألم من مشكلةٍ ما إلى ابتسامةِ أملٍ بحلٍّ ما، وأهمية النقد ليست فقط في التصويب على الخطأ لكنه في النهاية يجعل المستهدَف تحت الضغط لمحاولة تجنب أن يصبح مادةً دسمة للأقلام.
في سورية ولعقودٍ طويلة كان النقد مجرد مصطلح اخترق سكونهُ بعض الأعمال الدرامية الهادفة لا أكثر، حتى من أتقنوه تعرضوا للتهميش والظهور اقتصر على من اختاروا التملق والمحاباة وما أكثرهم، ولعل غياب تفعيل النقد البناء كان أحد أهم أسباب تفشي الفساد والمحسوبية في إدارات الدولة، واليوم مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي فإن سجن الأفكار في قفص العقلية الخشبية التي لا يزال بعض «أولي الأمر» يحملونها بات مستحيلاً، فهو كمن يحاول أن يملأ سلتهُ ماء، إضافة لذلك فإن حرية التعبير بأشكالها كافة مصونة بالدستور وفق الفقرة الثانية من المادة الثانية والأربعين، ومن ثم لا يمكن لأي قانون حجبها، فالمادة الدستورية لا يلغيها أو يعدّلها إلا مادة دستورية بديلة، أي إنك عزيزي المواطن باستطاعتك ممارسة هذا الحق وسؤال الوزير الذي قال إن شوارعنا أفضل من شوارع جنيف: هل مررت بشوارع «سانت دحاديل» مثلاً؟ هل كنت تستمع لفيروز وهي تغني «سكن الليل» وأنت تتجول على «بوليفارات نهر عيشة»؟ يحق لنا مثلاً أن نسأل بعد فضيحة تزوير شهادات الدكتوراه المعروفة، ألا يعتبر تقديم البعض عبر وسائل الإعلام الرسمية بصفات وخبراتٍ قد لا يحملونها تزويراً مقونناً؟ ماذا عن الجولات الإعلامية شبه اليومية لأحد الوزراء؟ هل ساهمت حقاً بتخفيض الأسعار؟
تطول السلسلة لكن كل ذلك يدخل في سياق النقد وهو يصبح محظوراً في حالةٍ واحدةٍ فقط عندما نقوم بالخلط بينه وبين التعدي على كرامات الناس، وهو عملياً المستوى الثاني فكيف ذلك؟
تعلمنا أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، الأدق أنها تنتهي عندما تتعدى باسم «حرية التعبير» على خصوصيات الآخرين، هذا التعدي يدخل في سياقين، الأول هو توجيه الشتائم لفظيةً كانت أم كتابية وهو حكماً بالأمر المرفوض على مختلف أنواع العلاقات الاجتماعية أو الرسمية، أما الثاني فهو التعدي على «الحياة الخاصة» للآخرين التي يعرفها القانون بأنها أسلوب حياة الشخص وطريقة عيشه بعيداً عن تدخل الآخرين فيها أو الاطلاع على أسرارها أو نشر مالا يسمح به من تلك الأسرار الخاصة، وهو موجود في كل قوانين الدول ودساتيرها بما فيها الدستور السوري وتحديداً الفقرة الأولى من المادة السادسة والثلاثين، وبمعنى آخر لا يمكنك في إطارك الاجتماعي مثلاً تصوير أو إعادة نشرِ صورةٍ لصديقك دون إذنه، والحرية المعطاة لك في النقد لا تسمح لك أبداً بشخصنة هذا النقد كالحديث عن الخصوصيات العائلية التي تندرج في إطار التشهير والإساءة لكرامة الناس، حتى النقد الساخر لا يجوز ممارسته على شكل أو هيئة الشخص، هذا تهكم وهو من المغالطات التي يقع فيها البعض عندما يعتقدون أن حرية التعبير فضاء لا حدود له، لكنه لا يتوقف عند ذلك، بل يصل إلى المستوى الثالث والأهم أي: توجيه الاتهام من دون أدلة.
تقول القاعدة القانونية «البيّنة على من ادّعى»، وبمعنى آخر لا يجوز كيل الاتهامات هنا وهناك من دون تقديم الأدلة، هذا الأمر نراهُ كثيراً في سورية بما يتعلق بأخبار الفساد، لكن القضية تبدو وكأنها تحولت إلى سوق عكاظ فالبعض اعتاد أن يرمي الاتهامات جزافاً للنيل من شخصياتٍ بعينها، والبعض الآخر يدّعي امتلاك وثائق هنا وهناك لكنه بالنهاية لا يقدم إلا كلاماً منمقاً يجذب الناس إليه يهدف للتشهير فقط لا أكثر، فانتقاد مشروعٍ إصلاحي لوزارةٍ ما مثلاً من منطلق أنه كمن يدق الماء وهي ماء ما دامت العقلية المعتمدة في الاختيار والتعيين ذاتها. لكن هذا الانتقاد لا يعطينا الحق بأن نتهم القائمين على هذا المشروع بالخيانة أو الفساد دون أدلة، فليس كل من أخفق بمهمةٍ ما هو «خائناً» وليس كل من انتقد «عميلاً»، كلا الطرفين بطريقةٍ ما يعتدي على كرامة الآخر. هذه الفوضى كان لا بد لها من حد، تحديداً لأنها جعلت المواطن يخلط بين «الصحفي» و«الناشط الفيسبوكي»، وخاصةً أن المصطلح الثاني يبدو هذه الأيام أشبهَ بمصطلحِ «محلل سياسي» مهنة من لا مهنةَ له ولكي نضع حداً لهذا الخلط فإنه وجب التوضيح أن الصحفي أساساً مرتبط بوسيلةٍ إعلامية لا يمكن لها أن تنشر مجردَ اتهاماتٍ أو خزعبلات لأنها حينها ستكون مسؤولة أمام الشخص الذي تم اتهامه وأمام السلطات التي أعطتها الترخيص الإعلامي، أما بما يتعلق بالعمل الفيسبوكي فهؤلاء حكماً لا يخضعون لقانون الإعلام والحرية الإعلامية، تحديداً أولئك الذين ينشرون بلا أدلة فعليهم بالنهاية أن يتحملوا مسؤولية ما ينشرونه، وعندما يتم رفع شكوى عليهم بتهمة التجني هذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال كمّاً للأفواه وما شابه، لكن هناك من كان ضحية لاتهامات قد لا يكون لها أساس، وقد نكون جميعنا ضحاياها يوماً ما، وعليه كيف تبدو الصورة الآن؟
لا شيء اسمه كمٌّ للأفواه عبر هذا القانون، ولا تقييد لحرية التعبير، لكن الخلط بين الاثنين بهدف التعدي على كرامات الناس هو أمر حكماً يجب أن يكون له قواعد وضوابط، أما موضوع الانتقاد فسنبقى ننتقد، وواهمٌ من يحاول أن يضع نفسهِ في برجٍ عاجي لمنع انتقاده، بل نذكره أن الزمن توقف لديه، والكرة بملعبكم فبيدكم أن تجعلونا نصمت، أو نصبح عاطلين من العمل، فقط كونوا على قدرِ المسؤولية، ولنتعلم دائماً أن رسم الخطوط الحمراء أمر خطر، لأن كل ممنوعٍ مرغوب فيه، الأفضل أن تجعلوا المواطن يرسم خطوطه الحمراء بيديه، فقط امنحوه ريشة يرسم بها.