اقتصاد

«البترودولار» و«البترو بترو»!

| علي محمود هاشم

حقاً انتهى عصر «البترودولار»..
يوم الإثنين الماضي، تلقى نظام المدفوعات العالمي، جرعة ترياق حاسمة من هذا الإدمان الذي تجرّعت اقتصاديات «الجنوب» حقنته الأولى مع ولادة ثنائية نظام «بريتون وودز» وما تلاها من اتفاق «روزفلت- عبد العزيز سعود» على ظهر حاملة الطائرات «كوينسي» عام 1945، قبل أن يتخذ ذلك الإدمان منحى مؤامراتيا عبر اتفاق «كيسنجر- فيصل/ 1974» القاضي بحصر بيع نفط «أوبك» بالدولار مقابل تمديد التعهد الأميركي ببقاء آل سعود، وصولا إلى تجديد مدته الثلاثينية في 2005 بتوقيع جورج بوش الابن.
خلال السنوات القليلة الماضية، لطالما أرخى الخوف شبحه فوق رأس الدولار، وخلالها، تحسّر الخبراء الأميركيون: «تجربتنا التي امتدت 35 عاما مع النقود الورقية ستتطلب العودة إلى مال ذي قيمة حقيقية، وسنعرف أن ذلك اليوم قد اقترب عندما تطلب الدول المنتجة للنفط الذهب مقابلاً له أو ما يعادله بدلاً من الدولار».
يوم الإثنين الماضي، حدث الأمر، ووسط رؤى تعكس خلفيات سياسية مشبعة بالقهر، تناقل الغرب بطريقة باهتة، ذهاب الصين إلى إطلاق بورصة شنغهاي للعقود الآجلة المقومة بعملتها المحلية «اليوان»، هذه الخطوة التي اتخذت نسختها الأولى في 1993 قبل أن تنهال عليها الضربات الغربية بسيف «أوبك» اختلالا كبيراً في سياسات التسعير، شهدت خلال الأيام القليلة الماضية بوادر أكثر من إيجابية تنبئ باستقرار ثانيتها كأداة مالية في العالم الجديد، استقرار جسده انهمار نحو 100 شركة وساطة عالمية و6000 متداول وإبرام العديد من العقود الهامة إبان انطلاقها.
التبدّلات الجوهرية التي تستشرفها الخطوة الصينية هذه، تنعش الآمال بقرب ولادة تأريخ نقدي جديد يضع حدّا للعملة الوحيدة التي يتم بها تسعير النفط في البورصات وأسواق البترول الآجلة والفورية.. «البترودولار»، فخلال السنوات الأربعين الماضية، استعمل الغرب غراء النفط -أكثر السلع الأولية تداولا حول العالم- لإلصاق الدولار بتجارته التي تزيد على 14 تريليون دولار سنويا.. هذه السرقة الموصوفة لثروات البشرية، باتت اليوم على موعد متجدد مع مناهضتها.
أزمة «الدولار» اليوم تتعاظم لما وراء «البترو»، فثمة جبهات أخرى تكافح هيمنته على ميزان المدفوعات في أربع جهات العالم، فنزويلا مثلا، والتي حاولت الولايات المتحدة حقنها بسلسلة من الثورات التي يقوم عليها حثالاتها العالمين إياهم، تبدي مقاومة فريدة وإيمانا متزايدا بالمضي إلى ما خلف الدولار، فقبل أسابيع، مضت إلى بيع النفط بعملات أخرى، وها هي تطلق اليوم عملتها الرقمية الجديدة: «البترو».
«البترو» هذا، يحتفط في اسمه بشحنة كيدية من لفظة «البترول» ترتكز إلى القيمة المستمدة من احتياطات نفطية وطنية تنموية هي الأكبر في العالم، كما يغمز لفظيا ومعنويا ونقديا من مصطلح «البترودولار» الذي لطالما وضع قدميه في طشت «خليجي» كلّف البشرية شلالات من الدماء!.
«البترو» الذي سيخصص لتداول السلع والخدمات في أميركا اللاتينية، يجاريه بطريقة مترابطة ما يمكن تسميته «إيرانو» في آسيا، قبل أيام أيضا، بحثت الجمهورية الإيرانية سبل التبادل التجاري مع روسيا بالعملة المحلية، كما ارتبط بنكها المركزي مع كافة البنوك الروسية لتسهيل استخدام مواطني كلا البلدين بطاقاتهم المصرفية بعيداً عن الوسيط الدولاري الذي تقدمه الأدوات المالية الغربية المكملة للبترودولار: فيزا وماستركارد.
ومع انضمام أنغولا الإفريقية شبه المعلن إلى نظام بيع النفط باليوان، وبدء توريد متوقع لغاز «سيبيريا» الروسي بهذه العملة أو بغيرها من طرق التقاص البينية إلى الصين أكبر مستوردي الطاقة في العالم، يُستلمح بوادر تمرّد في قارات ثلاث، ليس فقط على «البترودولار» بل أيضاً على ظلاله الجائمة فوق صدر نظام المدفوعات العالمي الذي يسيطر الدولار واليورو والجنيه الاسترليني عليه بـ40 بالمئة و36 بالمئة و7 بالمئة على التوالي.
الدولار يتقهقر عن عرش إمبرياليته، و«فأس» اليوان وحلفائه ينهال بتؤدة على «رأس» البترودلار وزبائنه.. هذا التبدل الجوهري في بنية الاقتصاد العالمي يعيد تقويم الإجراءات الحمائية التي يتخدها الرئيس الأميركي كأكثر حنكة بكثير مما تبدو عليه، فلربما هي «انكفاء الضرورة» استباقا للانهيار الحتمي المترائي مع عودة البترول بترولاً والدولار دولاراً.. انهيارٌ، تتعزز شكوكه مع ذهاب الصين «الاشتراكية» للدفاع عن العولمة، فيما لا يفتأ يتبرأ منها أبواها الشرعيان على ضفتي الأطلسي!.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن