رأي غنوسوس.. رجل الأعمال ترامب
| عمار وقاف
بإعلان مقتضب عن سحب وشيك لقوات بلاده من سورية، فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجميع، وأتى هذا فيما مراكز الأبحاث المحترمة تتبارى في تبرير وتفسير سياسة معلنة للبيت الأبيض حول عزمه على إبقاء قواته في سورية لأجل غير مسمى، وهكذا، دون مقدمات، بدت تكهنات عن قرب تنفيذ واشنطن ضربة عسكرية للدولة السورية، بحجة استخدامها سلاحاً كيميائياً، ضرباً من التنجيم.
فك غموض هذا التحول يتطلب أولاً معاينة مشروع التدخل الأميركي المباشر في سورية، الذي كانت ملامحه قد بدأت تكتمل أواخر ربيع العام 2016، وطرف الخيط الذي كشف المستور كان الحديث فجأة عن ضرورة عزل الرقة، المحتلة في حينه من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش، والكلام عن عزل المدينة، كهدف قائم بحد ذاته، بدل الكلام عن استعادة السيطرة عليها، باح بسعي الإدارة الأميركية لوضع اليد عليها قبل استكمال القدرة على هزيمة داعش فيها، بغية قطع الطريق على احتمال اندفاع الجيش السوري نحوها بعد انتهائه من معركة السيطرة على حلب، وسبق هذا الإعلان ببضعة أشهر دعوات لوزير الدفاع الإسرائيلي في حينه، موشيه يعالون، ومستشار الأمن القومي الأميركي المقبل، جون بولتون، وغيرهما، لإنشاء دولة ذات صبغة طائفية بين العراق وسورية.
وعليه، فقد تمت إثارة مخاوف طائفية هنا ودغدغة أحلام قومية هناك، بين أبناء المناطق الشرقية، وإيهام الجميع بإمكانية بناء شراكة مجتمعية جديدة ضمن كيان مستقل، مكتمل الموارد، تضمن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها في المنطقة حسن إدارته وحمايته ورخاءه. جوهر المشروع الأميركي الحالي في سورية، إذاً، هو في سلخ أرض الجزيرة وشرق الفرات عن الوطن الأم، كطموح أقصى، أو التلويح بإمكانية تحقيق ذلك، بالحد أدنى، وتحاول واشنطن من خلال ذلك، إضافة إلى تمترسها في منطقة التنف جنوبي شرقي البلاد، موازاة تفوق الخصم الروسي، بحضوره القانوني في الساحة السورية، وإجبار دمشق على تقديم تنازلات تتعلق بتغيير بنية الدولة، إلا أن الإدارة الأميركية لا بد أنها تعي أن دون تحقيق مشروعها هذا صعوبات جمة.
أولى هذه الصعوبات مشروع تركي مماثل من حيث الجوهر والأهداف، تسعى من خلاله أنقرة إلى استغلال مجموعة أخرى من السوريين بغية الضغط على الدولة السورية لتقديم تنازلات. المشروعان على تضاد إلى حد ما، أقله بسبب تعارض في طموحات المجموعات التي اختارها كل طرف ليدغدغ أحلامها، لكن ما من شيء كان يمنع تنفيذهما بشكل متزامن. إلا أن أمراً مستعجلاً طرأ على الجانب التركي مردّه لتململ داخلي متعاظم في المجتمع التركي من النازحين السوريين، تأمل أنقرة بتخفيفه قبيل انتخابات العام المقبل، أخل بإمكانية كهذه، ودفعت حراجة موقف حزب العدالة والتنمية التركي الانتخابي هذه أنقرة للضغط على واشنطن لمساعدتها في توسيع حزام نفوذ لها على طول حدودها مع سورية، ولو بشكل مؤقت، بحيث تتمكن من رمي أكبر عدد ممكن من النازحين السوريين عبر الحدود، ليصبحوا مشكلة سورية، لا تركية.
من جانب آخر، لا بد أن الولايات المتحدة الأميركية، التي أمضت العامين الماضيين تراقب حلفاءها في المنطقة وهم يتقاطرون إلى موسكو، تشعر بقلق من تعوّد تركيا دفء حضن الخصم الروسي. ولعلها ترى مصلحة، مع وجود عوامل مؤثرة آخرى نعرضها تالياً، في التراجع قليلاً في الملف السوري بغية ترميم العلاقة مع تركيا وتقليص مساهمة الأخيرة في زيادة النفوذ الروسي. وقد يكون هناك في واشنطن من يرى في ارتفاع حدة الخطاب التركي مع الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة مؤشراً إلى خشية تركية متعاظمة من تحول أنقرة من حليف أساسي إلى مجرد واحد من خيارات عدة.
عامل آخر استدعى إعادة الولايات المتحدة الأميركية تقييم حضورها في سورية، ربما، هو ضيق في أفق قدرتها على ضبط مناطق يخشى قسم من أهلها تهميشهم لمصلحة قسم آخر. وقد تكون واشنطن رصدت في خلال فترة وجودها في مناطق الجزيرة وشرق الفرات تعاظم امتعاض جزء من الناس، واقتنعت بقدرة أعدائها على استثماره لإغراق قواتها في مستنقع مشكلات سيكون له عواقب بالضرورة في الداخل الأميركي. يمكن للإدارة الأميركية زيادة شعبيتها الانتخابية داخلياً على أنها حامية لكيان وليد يتوق جلّ أهله للعيش في ظل قيم ديموقراطية، لكن الصورة الوردية هذه ستنهار بسهولة إن اتضح أن هناك من يقاوم الولايات المتحدة كقوة احتلال.
وبدلاً من مواجهة عواقب وضع كهذا، فلعل واشنطن قررت أنها قد نثرت ما يكفي من بذور الشقاق في تلك المنطقة، ما سيصعّب من مهمة الدولة السورية في استعادتها أولاً وإدارتها لاحقاً. هذا ربما أحد أوجه فهم عبارة الرئيس ترامب المتضمنة في إعلانه المفاجئ عن الانسحاب: «فليتعاط الآخرون مع المسألة، الآن». ومن يدري؟ فقد تنتج تلك البذور حالة حادة من عدم الاستقرار تستدعي تدخلاً أميركياً لاحقاً يمكن تبريره داخلياً بسهولة لأسباب إنسانية وديمقراطية.
وعلاوة على قدرة الولايات المتحدة الأميركية على ضبط الأمور الأمنية، فإن ضيق أفق ترميم البنية التحتية اللازمة لسير الحياة في مناطق شرقي سورية، بمعزل عن تعاون الدولة السورية، لا بد أنه ساهم في اتخاذ قرار الانسحاب هذا. هناك تحديات جمة، بطبيعة الحال، تتعلق بالتعليم والصحة والإدارات المدنية التي تتطلب إعادة تكوينها وقتاً ليس في متناول الإدارة الأميركية، ناهيك عن الموارد الأخرى البشرية والمالية اللازمة. ولعل حلم الإدارة الأميركية في إقناع السوريين النازحين للعودة إلى المناطق الواقعة تحت سيطرتها كان أهم ضحية لشح كهذا في الموارد. حدث كل هذا على الرغم من تعمد إظهار واشنطن استعداد حلفائها لتقديم الدعم المالي اللازم، إلى حد تسريب خبر عن رحلة لوزير سعودي إلى الرقة، إلا أنه يبدو أن تردداً قد أصاب الجميع في تقديم الدعم المطلوب، والأرجح أن هذا حدث بسبب عدم الثقة بتحقيق العائد المطلوب.
في نهاية الأمر، يمكن فهم موقف الرئيس الأميركي الأخير من وجهة نظر رجل الأعمال الذي يفضل تجنب المخاطر ولو أدى هذا إلى تحقيق عائد أقل على استثماره. ليس من السهل على مستثمر كهذا اتخاذ قرار صرف المال والجهد والوقت في مناطق يصعب استقطاب عقول جميع أهلها وقلوبهم، ناهيك عن النازحين عنها. ويأخذ مستثمر كهذا بالحسبان أيضاً احتمالات تعرض القوات الأميركية لهجمات دراماتيكية تحتل شاشات التلفاز، أو وقوع اشتباك لا يمكن ضبطه مع القوات الروسية، أو تفشي أمراض لا يمكن السيطرة عليها بسبب ضعف البنية التحتية الصحية، إلخ، وكلها ممكنة الحدوث جداً. كما ينظر مستثمر كهذا بقلق دائم إلى موقفه القانوني الذي لا يمكن الدفاع عنه والذي لا بد أنه يمنح منافسيه ميزات تنافسية أعلى.
باختصار، رجل أعمال كهذا لا يستثمر أمواله في بيئة خطرة كهذه وإنما يترك الآخرين يستثمرون وينتظر لحظة تعثرهم كي يقفز لاغتنام الفرصة. هذا على الأغلب فحوى عبارة الرئيس ترامب آنفة الذكر.
وهذا كله، طبعاً، بفرض أن الرئيس الأميركي كان يعني ما تفوه به في خطابه الأخير في أوهايو.