ثقافة وفن

اعتدال رافع في الجزء الثاني من الأعمال الكاملة … تبوح بحالات شعرية صادقة وبكلمات مسافرة عبر الزمن إلى أحبّ المدن على قلبها

| سوسن صيداوي

من العزلة والوحدة ينطلق البوح، صدق الكلمة وإخلاص الشعور سلّحاها ضد النفاق الاجتماعي الذي أبت أن تكون فردا من أعوانه، تجلس مصادقة نفسها، مستأنسة بخيالاتها، التي تركّب شخوصها وتذهب بهم إلى أجمل شعر أو قصة محكية. إنها الأديبة اعتدال رافع الجالسة في دار السعادة للمسنين بدمشق، تعِدّ أيامها بصبر شامخ على الألم من صديقها مرض السرطان الذي احتل جسدها منذ عام1990 وحتى اللحظة. اليوم كان الاقتراح موفقا من الهيئة العامة للكتاب في وزارة الثقافة لإصدار أعمالها الكاملة الجزء الثاني، كي يكون الأمر أسهل على الراغبين والمهتمين باقتناء أعمالها، التي يجب أن تبقى مقروءة بكلمتها الحيّة لأجيال عديدة قادمة. الكتاب (الأعمال الكاملة) في جزئه الثاني مقسّم إلى (حالات الشعر- كلمات مسافرة- بيروت كل المدن: شهرزاد كل النساء). يقع في 544 صفحة من القطع الكبير. وسنورد لكم بعضا من قليل مما جاء فيه.

في التعريف
في حوارنا معها- الذي تفردنا به- أشارت الكاتبة اعتدال رافع إلى الإحباط الذي لازمها طوال سنين الأزمة، داعية المرأة السورية إلى الصبر والتسلّح بالقوة، إيمانا بأن المرأة وطن، وانطلاقا من حب الكاتبة الكبير لوطنها ولشامها، قائلة «في كل يوم أقول ستنتهي الحرب على سورية، ولكن للأسف الواقع مؤلم وأنا أقول هذا على الرغم من أنني أجلس هنا وأنا عنصر لا يقدّم ولا يؤخّر، وأتمنى من المرأة السورية بالعموم والأم السورية بالخصوص، أن تعضّ على جرحها وتقاوم كي تعود لنا سورية، وأتمنى أن تعود لنا سورية قبل أن أموت». ولتأكيد هذا الحب الكبير جاء في تعريف الكتاب مقطع بقلم الكاتبة يصّور عبر مفردات وسطور العاطفة الدفاقة المنسوجة:
«يا شام…
ضُميني
شال حرير على صدرك
اذرفيني
صلاة في جوامعك ومزاراتك
كثّفيني
قطرة ياسمين في قاموس عشقك
وزهرة بنفسج في دفتر أحزانك
فأنا يا شام أدمنتُكِ
وامتلأتُ بكِ
حتّى الثُّمالة».

في حالات الشعر
في هذا القسم من الكتاب وردت قصائد تحكي مشاعر الأديبة، بمفردات وعبارات تجسّد ما يدور في لبّها من أفكار وفي قلبها من مشاعر، متفاوتة بين الأنين الممزوج بالصبر، وبين التصوير لجمالية ذكريات عانقت واقع الكاتبة يوما، حيث تقول في (كلمات بلا أجنحة):
«أكتبك اليوم بالماء
بعدما امتصّت كلماتي غزارة الأنهار
أكتبك حكاية
دغدغت قلبي ذات يوم
وأسكرت نعاسي
أكتبك ذكرى
ملفوحة الوجد
كلّما لهجت أشواقي إليها
غرقت في بحبوحة الشجن».
على حين تصور التناقض الذي تعيشه في رغبتها بين الاقتراب أو الامتناع عن تعاطي الحب والعيش في عالمه غير المحدود مع حبيبها قائلة في قصيدة (يرقص صوتك):
«يرقص صوتك
على دمي
أسفحه أكوانا من
الأنين
الذي خبأته
في شراييني وأوردتي
آه…. يا حبيبي
لو أستطيع أن أنزف روحي
حتى آخر قطرة
أن أتعرى من نفسي
أتخطى حدود المحظور والممنوع
لأستعيد ما سرقوه مني».

كتابات بلاعناوين
فاض هذا القسم من الكتاب الذي جاء تحت مسمّى (كلمات مسافرة «كتابات بلا عناوين») بالمعاني والمضامين، في مقاطع لم تحمل أي عناوين، بل حملت صورا وأشجانا، صورا بأنين وألم، صورا تجسّد كلّ الواقع، بسخرية ليست صريحة، ولكن بتهكم واضح، حيث تقول في أحد المقاطع:
«يجوب الشاعر دهاليز النّوى
تعزف قيثارته طفلة
ترقص روحها في حلبة الموت
يجوب الشاعر في شرايين الحزن
تغرق قيثارته بنواح اليمام المكدّس على شرفات مغلقة.
يجوب الشاعر في عروقي
فيتعثّر بقلبي
ويعزفه
أغنية حبّ كونية
يجوب الشاعر في فضاءات الأحلام
تتناثر قيثارته
حبالا من أنين».
بيروت كل المدن.. شهرزاد كل النساء

في هذا القسم من الكتاب الذي جاء تحت مسمّى (بيروت كل المدن.. شهرزاد كل النساء)، يضم أقصوصات أو قصصا قصيرة جداً (البرقية)، بالرغم من إيجازها إلا أنّ الكاتبة لم تغفل فيها عن قواعد وعناصر البناء: البداية والعقدة، والحل والنهاية أو الخاتمة، حيث تجمع لنا الأديبة بقصصها، التي لا تتجاوز كل واحدة منها الخمسين سطرا- أكثر أو أقل- كلّ الحب، كلّ الألم، كلّ الفكر، كلّ العلم، كلّ البؤس….. وهكذا فهي تجمع كلّ الكل، في واقع نعيشه، هذا الواقع بالرغم أنه جاء في تاريخ قديم قد وُقّع في نهاية قصصها، إلا أنه يعيد نفسه في المعاناة، من خلال مهارة الأسلوب الذي تتمتع به الكاتبة، مرسخة المغزى العميق الذي حملته مضامين الأقصوصات المؤثرة ، ففي قصة (في العيب) الأسلوب التصويري الجميل الذي اعتمدته، مكّنها من حبك قصة تلخص ما نعانيه ومازلنا وسنعاني به فيما يمكن أن نسميه أصول التربية، وما يتبعها من إهمال غير مدرك بما ينجم عنه من هول أخطاء فادحة، تشكل في نفس أطفالنا عقدا نفسية مدمرة. وهنا أحبت الكاتبة أن تختم قصتها بفاجعة، ليس بغرض التحريض على الألم والبؤس، بل لأن الفاجعة- بوفاة الطفلة بسبب الإهمال والقسوة- لا تقل شأنا عما سيكون عليه المستقبل، عندما يشتد عود هؤلاء الأطفال بهذه الأفكار المعقدة والمكبوتة التي لم يغذها أي حنان أو عاطفة، مع وعي إرشادي وتربوي.

في القصة…. غزل
فن القص المتبع عند الأديبة اعتدال رافع يكشف عن مهارتها في جعل الحدث موضوع قصة جذابة، مقدّمة إلينا ببناء متكامل العناصر، مهما كانت القصة موجزة. إضافة إلى بروز الأسلوب الشعري في السياق، ففي قصة «غزل» تقول الكاتبة بعبارات ساخرة ومرحة، وبالوقت نفسه تنقد الجوع الجنسي المشتهي الذي يعيشه فكر المرء:
«كتب لها حبيبها وهو في قمة هيامه قصيدة غزل مشحونة الأشواق والعواطف يقول فيها:
خدّاك تفاحة
شفتاك بندورة
شعرك خيوط عسل
أصابعك خيار
جسدك هليون وترخوم وكوسا.
يسيل لعابي ويشط ريقي من نهمي إليك
أسرعي إليّ يا حبيبتي في نجوم الظهيرة ولاقيني تحت شجرة الجمّيز.
هوّلها غزله النابي عن دنياها.
ولكي تنفي عنها هذه الأهوال تمعّنت في حالها بالمرآة حتى تطابق الصفة بالموصوف، ولم تنطبق عليها ولا كلمة من غزليات الحبيب:
كانت شاحبة وجافة من قلّة الخضرة».

في التمرد
بين من يأخذ القرار ومن عليه واجب التنفيذ، قدمت لنا حوارية بين يدها وبينها في (تمرد)، نوجز لكم بعضا منها:
«قالت: الدنيا برد، القلم بارد.
تأمّلتها كانت مزرقّة مثل كلوة… ويائسة فركتها باليد الأخرى. نفخت عليها تكسّرت أنفاسي وتبعثرت وما اخترقت برودتها.
قلت: امسكي بالقلم، وتعالي إليّ لنكتب حكاية.
ندت عنا صرخة رفض، وعادت إلى حالها ساكنة، تأوهت:
أنا لا أنتمي إلى حكاياتك البعيدة، وإنما إلى الجلي والمسح والغسيل والغبار. مللت حكاياتك دعيني أقم بجلي الصحون والطناجر المكومة في المجلى منذ الصباح.
لا شأن لك بالقرارات. أنا صاحبة القرار وما أنت سوى أداة منفذة.
إنه قدري… هذا ما قاله لي قارئ الكفّ عندما فردني واخترقني واستشف ما فوق جلدي وعظمي وما تحتهما. كتابات جبينك محفورة على خطوطي حرفا حرفا، كنت تمنّين نفسك أن يخبرك قارئي بأشياء مختلفة.
ولكن للأسف خط الحظ ممحو، وخط الأحلام ينفرش مثل الدالية، وخط الحب متآكل من التعب والسهر، وخط العمر بامتداد الأنين».

حتى يسكن صباح الشام وجه الأميرة
التاريخ يعيد نفسه، والحرب واحدة بأسبابها وبنتائجها، وبما ستخلّف عنها من ذكريات ومشاعر تحتاج إلى أعوام مديدة كي يخدر تأثيرها، وفي هذا المكان تصور لنا الكاتبة ما عاناه الشعب اللبناني بسبب حربه الأهلية، باحتجازه في الملاجئ، مع تصوير معاناة مرور الوقت الكهل متثاقلا رافضا العبور، إلى جانب حبها الكبير لدمشق والباعث بنفسها أمل الخروج، حيث تقول:
«أخرج إلى الضوء، أغادرك ومشلوعة القلب يا بيروت. أسكن وجهك… وتسكنينني، لا عشق إلا وأنت رحيقه. مغلولين بأصفاد القهر، ونسيم الشام يزكي احتراق صبوتي إليك. أخاطرك عبر أنفاس الطفولة والبحر وقفز المسافات. أبثك لواعجي. تموجات لهفتي الملهوفة لعناقك والحلول بك، تلغي الزمن والمسافات والدخان والحدود. حنيني يثقب مجرى دمعي، وأنا لا أبكي… تورّمني الدموع، تغيب عني شاماتك البحرية في الغياب. قهر وحشي يصيك عني… أنا العاشقة الأبدية التي تناديك من محرقة العشق… يا وطني..».

آخ… أها الأطفال
تحت هذا العنوان نعرض لكم ما كتبته الأديبة اعتدال في زمان مضى ولكن المعاناة حاضرة في أزمتنا السورية.
«الطفل… مشهور… شاهد العيان على مذبحة مخيم شاتيلا وفي وصف دقيق لما تعانيه الطفولة في حالة يكررها الزمن ولا تخونها الذاكرة تقول الكاتبة «بين ليلة وضحاها يكبر (مشهور) ينضح في هذا العصر الممسوخ الذي ذبح أهله وجيرانه وبراءته، يصبح مهرا بريا يبصق لجامه ويتقيأ العلف الصدقة، يصهل صهيلا مسحوبا من قاع الذاكرة الموجوعة. يوقظ غفوة المدن يهز عروشها يعلن حقده حرا لأنسنة هذا العصر الكومبيوتري».

يا حيف!
لطالما كانت الأديبة اعتدال رافع مؤيدة للمرأة، وتحمل همها في كتاباتها، داعية إياها بأن تنهض ضد العادات والتقاليد المجتمعية البالية، التي تكرر المآسي بشكل دائم، حيث تقول:
«يقول وليم رايش (ليس من أجل قسيمة الزواج، أو نتيجة لجوع جنسي، أعانق زوجتي وأقبلها. وإنما أفعل ذلك لأنني أحبها فعلا). أغتبط لوجود أمثال هذا الرجل العظيم.
معظم رجالنا، لا يمسحون دموعنا، إلا بدافع التفوق والإثارة والجوع التاريخي…. الدمعة، الجوع والقهر. مصدر لذة تثير مكامن الفحولة النائمة ، تشعرها بالتفوق والسيادة. (تعويض صغير وتافه عن فقدان التفوق الاسمي، والسيادة الفعلية).
ليس من أجل الدمعة، تنهض الكف، النائمة… بشهامة. يا حيف».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن